النهار
الخميس 5 يونيو 2025 11:30 صـ 8 ذو الحجة 1446 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

ثقافة

عضو الشيوخ دكتور رامي جلال: ”التكنولوجيا ليست عدو للثقافة.. وقرار غلق بيوت الثقافة مؤسف وخطير”

النائب الدكتور رامي جلال
النائب الدكتور رامي جلال

الثقافة لاعب حيوي ومؤثر في التكوين الأجتماعي والسياسي للدول، فهو من يُشكل ولا يتشكل. ولا يمكن فهم مجتمع او دولة دون فهم أيدولوجيتها من خلال الثقافة نفسها، لذا فكان لابد من طرح أسئلة خاصة في إطار الثقافة، ومدى قدرتها على ملائمة التطور وبخاصة في العقود الأخيرة، ووجود أحداث من شانها إعادة تشكيل الثقافة بوجه جديد تستطيع من خلالها النفاذ بشكل أكثر فاعلية في صناعة القرار.
لذا فقد حاورنا الدكتور رامي جلال الكاتب الصحفي وخبير السياسيات الثقافية، عضو مجلس الشيوخ عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين للإجابة عن تساؤلاتنا، فكان لنا هذا الحوار..

رامي جلال

على الرغم من نشاطك الكبير، إلا أن الدور الذي تقوم به يحتاج لأدوات مساعدة أو فريق عمل متناغم.. فما رأيك؟
بكل تأكيد، لا يمكن العمل بشكل الفردي في ملف ضخم مثل الثقافة؛ لأن الرؤية الشاملة تحتاج إلى عقل جمعي، وفريق يمتلك مهارات متكاملة: من السياسات العامة، إلى الإدارة، إلى الاتصال المجتمعي، وحتى التحليل البياني، وحتى لو أتقن شخص واحد كل هذه الأمور، من الصعب أن يقوم بها جميعها بشكل متكامل. ولكن تكوين فريق يستلزم إمكانات مادية قد لا تتوفر للجميع، ومن هنا يتم تعويض هذا الأمر عن طريق فكرة التطوع، ولكن التحدي هنا يكون في جودة واحترافية العمل المقدم تطوعًا.
بشكل عام أحرص دومًا على تشكيل دوائر نقاش وتعاون تضم مثقفين وأكاديميين، لأن ثقافة دولة عظمى ثقافيًا بحجم مصر لا تُدار بجهد فردي، بل برؤية تشاركية، وهي الرؤية التي أحاول الدفع بها سواء داخل البرلمان أو الجامعة أو من خلال مقالاتي ومشروعاتي البحثية.

قطاع الثقافة يعمل منفردًا عن قطاعات أخرى كالتعليم والبحث العلمي.. رأيك؟
هذه واحدة من أزمات البنية المؤسسية في مصر، لا الثقافة وحدها. هناك غياب للرؤية التكاملية بين القطاعات. لا تعليم دون ثقافة، ولا ثقافة دون بحث علمي. لكن الواقع أن كل وزارة تعمل كما لو كانت كيان منعزل، وهو ما يستدعي التحرك نحو ما يُعرف بالحوكمة متقاطعة القطاعات، لأن تنفيذ السياسات الثقافية لابد أن يُشرك مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة من قطاعات متعددة، من أجل تحقيق الأهداف المترابطة، لذا نحن بحاجة إلى ما أسميه "منهج الترابط الوطني".

هل ترى ان هناك انحدارًا في دور الثقافة في ظل التطور التكنولوجي؟ وكيف يمكن المواكبة؟
الانحدار ليس بسبب التكنولوجيا ذاتها، بل بسبب فشلنا في التفاعل معها. التكنولوجيا ليست عدوًا للثقافة، بل هي ذراعها الأهم اليوم. المشكلة أن كثيرًا من المؤسسات الثقافية ما زالت تفكر بعقلية الورقيات في عصر البيانات والمنصات الرقمية. لذلك نحن بحاجة إلى نحتاج إلى رقمنة التراث، واستخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل ميول الجمهور الثقافي، وإنتاج محتوى رقمي يتماشى مع أدوات العصر دون أن يُفقدنا الجوهر. والأفكار في هذا الصدد كثيرة للغاية.

رامي جلال

قطاع الثقافة متشعب.. كيف يمكن تنسيق العمل داخليًا وخارجيًا؟
مثل هذا التنسيق يحتاج إلى عدة أدوات أبرزها إنشاء قاعدة بيانات قومية شاملة عن البنية الثقافية من العاملين وحتى الأبنية. مع إيجاد مجلس تنسيقي أعلى يجمع الجهات الفاعلة من وزارات ومؤسسات وهيئات مستقلة لوضع خطط موحدة. ومن المهم كذلك تحديد مؤشرات قياس أداء محددة لمعرفة الأثر، وليس مجرد سرد عدد الفعاليات كما يحدث الآن.
بشكل عام فإن العمل المشترك لا يعني تكرار الجهود بل توجيهها نحو أهداف متقاطعة، وهذا ما نسعى لترسيخه حاليًا في بعض مشروعات إعادة الهيكلة.

ما الدور المنوط بالمستشار الثقافي بالخارج؟ وكيف يُستغل دوره؟
في واقع الأمر ليس لدينا مستشار ثقافي، بل هو في الحقيقة مستشار تعليمي معني بالأساس بفكرة التبادل الطلابي، وهو يُعين من وزارة التعليم العالي وليس وزارة الثقافة، وبالتالي فالمسمى الوظيفي غير دقيق، أما ما الشق الثقافي من العمل فهو متروك للفروق الفردية بين المستشارين.
هذا الوضع لابد من تعديله ليكون الشخص المرسل للخارج معني بالثقافة بالأساس، والتعليم جزء منها بكل تأكيد. المستشار الثقافي ليس منظمًا للأنشطة والفعاليات بل هو واجهة القوة الناعمة المصرية. ويجب أن يكون لديه فهم عميق لهوية بلده ولثقافة الدولة المضيفة. لذلك نحن في حاجة إلى تغيير آلية اختيار المستشارين الثقافيين، وتدريبهم على أدوات الدبلوماسية الثقافية، وأن يكون لديهم مشروع ثقافي حقيقي يُترجم إلى مبادرات، وترجمات، ومعارض، وبرامج تبادلية. المطلوب عمومًا ليس "تمثيلًا ثقافيًا"، بل تأثيرًا ثقافيًا.

رأيت العالم من الجانبين

قصور دور الثقافة تجاه الادعاءات المهاجمة لمصر مثل الأفروسنتريك؟
مع تحفظي على نمط تعامل البعض مع هذا الأمر بوصفه "تريند" مؤقت، فالمشكلة أن ردّ الفعل تأخر، فجاء هشًا ومتأخرًا. تيار الأفروسنتريك ليس فقط هجومًا على التاريخ المصري، بل هو تحدٍ لحقائق الحضارة نفسها. والرد لا يكون ببيانات أو شعارات وطنية أو "هستيريا فيسبوك"، لكننا في حاجة إلى ترجمات علمية دقيقة لأبحاثنا بلغة الخطاب الأفريقي والأميركي، فضلًا عن إنتاج أفلام ووثائقيات تخاطب العقل الغربي. بالإضافة إلى دعم مراكز أبحاث دولية تتبنى روايتنا الحضارية بناء على وثائق لا انفعالات.

رأيك في قرار إغلاق بعض بيوت الثقافة في الأقاليم؟
القرار مؤسف وخطير، لأنه يعكس غياب مشروع ثقافي وطني حقيقي. بيوت الثقافة ليست مجرد مبانٍ، بل هي المساحة الأخيرة لصوت المهمّش في بلد تتسع فيه الفجوة بين المركز والهامش. ما يحدث ليس إصلاحًا، بل إعادة إنتاج لعجز مؤسسي وسياسات ثقافية تقليدية، فوقية، ومفصولة عن الحريات والخيال والاقتصاد. إغلاق هذه الكيانات بلا بديل فكري هو إطفاء لنور كان باهتًا، لكنه حقيقي. الثقافة ليست ترفًا إداريًا، بل جوهر أي مشروع حضاري. ومن لا يرى الثقافة أولوية اليوم، سيدفع غدًا ثمن الفراغ، لا في الكتب فقط، بل في الضمير الجمعي، وفي قدرة المجتمع على البقاء.

لماذا لا نرى مشاريع قوانين كثيرة للثقافة في البرلمان؟
أحد الأسباب أنه يتم التعامل مع الثقافة كقطاع "ترفيهي" وليس كبنية استراتيجية. وأسعى دومًا لتغيير هذا المفهوم، لذلك تقدمت بعدة دراسات برلمانية في هذا الصدد مثل: الدبلوماسية الثقافية، والاقتصاد الإبداعي، وإعادة هيكلة وزارة الثقافة، فضلًا عما يزيد عن ثمانين مقترحًا في موضوعات ثقافية متنوعة. المطلوب بشكل عاجل أن ندرك أن التشريع الثقافي ليس نخبويًا، بل يمس الهوية والاستقرار الوطني ومستقبل الجمهورية المصرية.

محمد هلوان

لماذا لا نرى ممثلين للثقافة في لجان الإبداع؟ غياب للمثقفين أم إقصاء متعمد؟
الاثنان. لدينا مثقفون لا يريدون التورط في العمل العام، ولدينا أيضًا مؤسسات تهمّش الصوت المستقل. لابد من ضمان تمثيل ثقافي في لجان مثل الإعلام، والتعليم، والذكاء الاصطناعي، والحوكمة، لأن الثقافة ليست دائرة ضيقة بل مقاربة لفهم العالم. ولكن السؤال الأهم هو عن جدوى هذه اللجان من الأساس، لذلك لابد من قياس أثر عملها.

هل المثقف الحقيقي ينتمي لتيار أم يغرد منفردًا؟
المثقف الحقيقي لا يُعرّف بانتمائه إلى تيار، بل بقدرته على مساءلة التيارات نفسها. قد يكون له مرجعية فكرية أو موقف أيديولوجي، وهذا طبيعي بل ضروري أحيانًا لتشكيل الموقف، لكن ما يُعرّفه حقًا هو قدرته على إزعاج الثوابت الكسولة، حتى تلك التي تبدو قريبة من قناعاته. لذلك كنت أكثر من كتب منتقدًا التيار اليساري والنظرية اليسارية ذاتها، لأن هناك فرق جوهري بين الانتماء الحر والاصطفاف الأعمى. الانتماء الحر هو موقف ناضج ناتج عن قناعة وتجربة، لكنه لا يلغي قدرة الفرد على النقد الذاتي ونقد الجماعة. أما الاصطفاف الأعمى، فيحول المثقف إلى أداة تبرير، لا إلى ضمير حي.
لا يجب أن يكون المثقف تابعًا لمعادلة جاهزة أو ناطقًا باسم "جماعة فكرية". وجوده في أي تيار لا ينبغي أن يعني ذوبانه فيه. فدوره ليس أن يعزف على نغمة الجماعة، بل أن يعترض عندما تنشز، وأن يُنذر حين تنحرف، وأن يُذكّر حين تنسى.
المثقف إذًا، هو ذلك الذي ينتمي دون أن يُستوعب كليًا، ويغرد دون أن يعزل نفسه عن العالم. هو من يعيش بين التيارات، لا ليتماهى معها، بل ليفتح فيها نوافذ، ويسأل أسئلتها التي تؤجلها، أو تكبتها.
باختصار: المثقف لا يُعرّف بمكانه داخل التيار، بل بالمسافة النقدية التي يحافظ عليها بينه وبين الجميع، بما فيهم نفسه.

هل النخبة الثقافية في مصر مجرد تيار واحد؟
لا، لكن هناك تيار يسيطر على "المنابر". المشكلة ليست في التعدد، بل في التمثيل العادل للتعدد. نحتاج إلى فتح المجال أمام أصوات مختلفة متنوعة فكريًا وجغرافيًا، فالثقافة لا تُدار من القاهرة وحدها.

هل تحوّل مفهوم الثقافة في مصر لمفهوم برجماتي؟
للأسف نعم. أصبحت الثقافة تُقاس بعدد مشاهدات الفيديو و"اللايكات" وعدد حضور الندوات وهكذا. تحوّلنا إلى جمهور يبحث عن تسلية لا تشكيل وعي. والمطلوب اليوم أن نعيد الاعتبار للمفهوم المعرفي للثقافة: الثقافة ليست لإرضاء الجمهور، بل لتحدي منطقه أحيانًا.

كيف يمكن تقوية دور المراكز البحثية؟
تقوية دور المراكز البحثية يتطلب أولًا تنويع مصادر تمويلها بشكل متوازن بين القطاعين العام والخاص، بما يضمن لها قدرًا من الاستقلال والاستدامة. كما أن تطوير هيكلها الإداري بطريقة أكثر مرونة سيساعدها على الاستجابة بشكل أسرع لأولويات الدولة والمجتمع. ومن المهم أن تُبنى السياسات البحثية في هذه المراكز على أجندة وطنية واضحة، تراعي القضايا الملحّة، وتخدم الأهداف الكبرى للدولة. كذلك، من المفيد أن تكون هناك علاقة تواصلية أكثر حيوية بينها وبين وسائل الإعلام، لتبسيط نتائج الأبحاث وجعلها أكثر قربًا من المواطن، والمساهمة في رفع الوعي العام بشكل مدروس.

رامي جلال عامر

كيف يمكن تنظيم عمل المراكز البحثية الأجنبية في مصر؟
ربما يكون من المفيد أن نبدأ أولًا بتعزيز دور الجامعات المصرية في المجال البحثي، باعتبارها الحاضن الطبيعي للمعرفة والإبداع العلمي، وهذا سيُحدث فارقًا كبيرًا على المدى المتوسط. أما فيما يخص المراكز البحثية الأجنبية، فوجودها قد يكون فرصة للتعاون وتبادل الخبرات، بشرط أن يتم ذلك في إطار من التنظيم الواضح، والتشريعات المنظّمة التي تُحدد بدقة ضوابط الإنشاء، ونوعية الشراكات، وآليات الرقابة والمتابعة. المهم أن تظل هذه المراكز منسجمة مع منظومة السيادة المعرفية الوطنية، وأن تُدار بعقلية شراكة مسؤولة لا بمنطق التأثير الخارجي، مع الحفاظ الكامل على متطلبات الأمن العلمي والشفافية. فقد نكون في حاجة إلى هذه المراكز، لكنها يجب أن تكون جزءًا من السيادة المعرفية لا أداة اختراق ناعم.

رامي جلال

بعد دعوتك للسماح للمصريين بدخول المتاحف الأوروبية التي تعرض آثار مصرية.. كيف نستفيد؟
الاستفادة ليست رمزية فقط، بل استراتيجية. هذه الدعوة تُعيد وصل المصري المغترب بهويته. يمكننا استغلالها عبر تنظيم جولات ثقافية منظمة للمصريين بالخارج، وإنتاج أدلة تعريفية بالقطع المصرية داخل المتاحف، مع التعاون مع المتاحف لإقامة معارض مؤقتة متنقلة في المدن المصرية. هي عمومًا فرصة لتفعيل ما أسميه بالهوية العابرة للحدود.

موضوعات متعلقة