الخميس 2 مايو 2024 09:23 صـ 23 شوال 1445 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

مقالات

د.محمود خليل يكتب: ظروفنا كدة!

د.محمود خليل
د.محمود خليل

معركة العلمانية واحدة من أقدم المعارك فى مصر. قبل الاحتكاك بالغرب، لم تكن مصر تعرف هذا المصطلح، ولم يظهر فى قاموس نخبتها، كان مصطلح الخلافة هو الأكثر شيوعاً وسيطرة، بل وتجد أن الكثير من الرموز الوطنية التى حملت لواء مقاومة الاحتلال الإنجليزى، كانت تعتبر الخلافة رافداً من روافد خطابها الدفاعى عن استقلال مصر. الزعيم مصطفى كامل -على سبيل المثال- اعتمد على التأكيد أن مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية (دولة الخلافة)، وهو يدافع عن حقها فى الاستقلال عن إنجلترا. ولم يكن الزعيم أحمد عرابى هو الآخر بعيداً عن هذا الفكر، وهو يدافع عن حق مصر فى الاستقلال، ويواجه الخديو توفيق بالعبارة العمرية الشهيرة: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، وعندما أراد الخديو مواجهته استصدر فرماناً من السلطان العثمانى يؤكد عصيان عرابى لخليفة المسلمين، فانفض الجنود من حوله.

كان حزب الوفد الذى تشكل بعد ثورة 1919 هو الحزب الأول الذى نبذ هذا المصطلح وراء ظهره، وهو يدافع عن استقلال مصر، متسقاً فى ذلك مع طبيعة الثورة التى تأسس عليها، والتى رفعت شعار: «الدين لله والوطن للجميع»، لم يكن ذلك يعنى بالبداهة نبذاً للدين، بل كان المقصود منه تحييد دور الدين فى السياسة، بعد المرارات الكثيرة التى خلفتها تجربة الخلافة العثمانية فى نفوس المصريين، لكن المشكلة أن مصطلح «العلمانية» اكتسب سمعة سيئة، لدى الإسلاميين، لا تقل سوءاً عن السمعة التى تمتع بها مصطلح «الخلافة» لدى المؤمنين بالعلمانية، وبدأ كل طرف يجتهد فى تشويه الطرف الآخر، بكل الطرق الممكنة، وأصبح الصراع على «علمانية» أو «إسلامية» مصر موضوعاً للكثير من المعارك التى اتخذت أشكالاً مختلفة أهدر فيها وقت ومال، بل ودم كثير. والأمر الملفت فى الصراع بين هذين الطرفين أنك تجد أن كليهما يترخص فى استخدام المصطلحات التى يرى الآخر أنها تعبر عن مكون فكرى أصيل فى رؤيته، سواء الإسلامية أو العلمانية.

الإسلاميون غارقون فى الحديث عن الديمقراطية والصندوق وغير ذلك من مفردات علمانية يتكئون عليها فى وجودهم السياسى وما يحصدونه من مغانم على هذا المستوى، ورغم ذلك تجدهم يتهمون خصومهم السياسيين بالعلمانية، وفى المقابل منهم يمكنك أن تضبط المدافعين عن العلمانية متورطين فى استخدام مفردات إسلامية، فى مدار صراعهم السياسى مع الإسلاميين، مثل استخدام مصطلح «الشهادة» فى الدفاع عن القضية. لقد وردت هذه المفردة على لسان الأستاذ حلمى النمنم وزير الثقافة -وهو قبل ذلك مثقف كبير- فى سياق حديثه عن الدفاع عن العلمانية وتأكيده أنه على استعداد للاستشهاد من أجل علمانية مصر. وظنى أن مصطلح الاستشهاد من المصطلحات التى تأسست عليها التجارب المختلفة للخلافة. فى النهاية نحن جميعاً أسرى عصر وظرف، ذلك ما يجب أن نستوعبه جيداً، فأشدنا قناعة بالعلمانية، وفصل الدين عن السياسة، لا يستطيع أن ينظف قاموسه من مفردات الثقافة الإسلامية وهو يصارع فى دنيا السياسة، وأكثر المدافعين عن «إسلامية مصر» ليس فى مقدورهم أن يفروا من الظرف والسياق الثقافى المعاصر الذى يدمغهم بقوة، وهم يتعاركون على كراسى السياسة.. نعمل إيه؟.. ظروفنا كده!.

نقلا عن الزميلة "الوطن"