الثلاثاء 14 مايو 2024 09:59 مـ 6 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

مقالات

سعد الدين هلالى يكتب: حرب الفساد

سعد الدين هلالى
سعد الدين هلالى

تخوفت الملائكة من انجرار بنى آدم إلى جريمتى الفساد والإرهاب، وكأن الله عز وجل يبغضهما أكثر ما يبغض من الجريمة، فكان جوابهم عندما أخبرهم بقضائه فى استخلاف آدم وبنيه فى الأرض أن توجسوا من ارتكاب هاتين الجريمتين كما قال تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون» (البقرة: 30). وتحتار عقول الفقهاء والمفسرين فى تأويل قول الله عز وجل رداً على تخوف الملائكة من ارتكاب بنى آدم لأسوأ جريمتين فى الأرض «إنى أعلم ما لا تعلمون»، فيقول الزركشى، ت 794هـ، فى «البرهان فى علوم القرآن»: يعنى يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح، ويقول النيسابورى، ت 850هـ، فى «غرائب القرآن ورغائب الفرقان»: يعنى يعلم من الخيرات الكثيرة التى لا يتركها الحكيم لأجل الشر القليل. وكان من أجمل ما قرأت فى تفسير هذا القول الكريم ما ذكره الثعلبى النيسابورى، ت 427هـ، فى «الكشف والبيان»: يعنى كما قيل أعلم أن فيمن أستخلفه فى الأرض أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء. وكأن هذا التفسير الأخير يشير إلى أن عصمة بنى آدم من الفساد والإرهاب منهم فيهم بالموعظة التى تكون من الأنبياء، والتفانى الذى يكون من الأولياء، والتقويم الذى يكون من العلماء، والمقاومة التى تكون من المصلحين.

والجدير بالتأمل هو تقديم الملائكة الفساد على الإرهاب فيما يبغضه الله عز وجل من الجرائم، وكأن هذا من العلم الذى وقفوا عليه حتى كان معروفاً لدى الفراعنة أن القتل فرع عن جرائم الفساد، ولذلك حكى الله تعالى عن فرعون قوله: «وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الأرض الفساد» (غافر: 26)، يعنى أن فرعون لم يجد مبرراً يستخف به عقول المصريين لقتل موسى، عليه السلام، إلا بأن ينسب إليه تهمة الفساد فى الأرض، وهذا دليل على شناعة جريمة الإفساد عن جريمة القتل، أو دليل على أن جريمة القتل فرع عن جريمة الإفساد، ويؤكد ذلك عموم قوله تعالى عن المفسدين: «وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد» (البقرة: 205). وقد ترتب على ذلك أن جعل الله من سننه الكونية بقاء الحكومات بإصلاحها ولو كان أهلها غير مسلمين، كما جعل هلاك الأنظمة بإفسادها ولو كان أهلها من المسلمين، فقال سبحانه: «وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون» (هود: 117)، ولم يقل وأهلها صالحون؛ لأن الصلاح يعود نفعه على صاحبه، أما الإصلاح فيعود نفعه على الآخرين، كما قال سبحانه: «ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون» (الروم: 41)، ولم ينهدم ملك فرعون لإعلانه كفره بالله وادعائه الألوهية عندما قال لقومه: «ما علمت لكم من إله غيرى» (القصص: 38)؛ لأنه كان يأخذ بأسباب البقاء من الإصلاح بين الناس والإعمار فى الأرض، ولما انحرف عن تلك الأسباب بممارسة الفساد جرى على ملكه ما يجرى على المفسدين من الهلاك، فقال سبحانه: «وفرعون ذى الأوتاد، الذين طغوا فى البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد» (الفجر: 10-14)، وقال تعالى: «إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم فى الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون» (القصص: 4-6).

ومهمة الإصلاحيين فى الأرض تقوم بذراعين متوازيتين؛ ذراع تبنى لوجه الله لا تريد من أحد «جزاءاً ولا شكوراً» (الإنسان: 9)، وذراع تحارب الفساد ولا تخشى فى الله لومة لائم، كما قال تعالى: «كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين» (النساء: 135)، وكما واجه القوم قارون ولم يخشوا فيه وجاهته وغناه فقالوا له: «ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين» (القصص: 77)؛ لأنهم يعلمون أن الفساد كالسرطان الذى يستشرى سريعاً فى الجسد حتى يقضى عليه، فإذا لم يستأصل أولاً بأول عصى على الزوال ولم يكن بد من النهاية لنظام الفساد حتى يتمكن برعم إصلاحى جديد من الإنبات، كما قال تعالى: «وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» (محمد: 38)، وحتى يدوم هذا النظام الإصلاحى الجديد فعليه أن يداوم تطهير نفسه من كل فسيلة فساد أولاً بأول، كما قال سبحانه: «فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد فى الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم» (هود: 116).

وحرب الفساد تحتاج إلى صفتى السرعة والحزم. (1) أما دليل السرعة فى حرب الفساد فهو أن التأخير فيها قد يشرعن الفساد؛ لأن الصبر على بقائه يحوله إلى عادة ويجعله من المكتسبات التاريخية، ولذلك وجدنا النبى صلى الله عليه وسلم يسرع فى استئصال نبتة الفساد فيما أخرج الشيخان عن حميد الساعدى أن النبى صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأزد يقال له ابن الأتبية -وعند مسلم ابن اللتبية- على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدى إلىّ. فقال النبى: «فهلا جلس فى بيت أبيه أو بيت أمه فينظر يهدى له أم لا. والذى نفسى بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خواء، أو شاة تيعر»، ثم رفع بيده: اللهم هل بلغت (ثلاثاً). (2) وأما دليل الحزم فى حرب الفساد فهو أن المجاملة فيها نذير بهزيمتها فيستعصى الفساد عن المقاومة، ولذلك نص ابن عبدالسلام المالكى، ت 676هـ، على أنه قد صح عن عمر بن الخطاب أنه كان يقاسم عماله إذا ظهر عليهم الثراء كأبى هريرة وأبى موسى الأشعرى، وكان ذلك باجتهاد منه لأنهم خلطوا ما يجب لهم فى عمالتهم بأرباح تجاراتهم وسهاماتهم فى الفىء، فلما لم يقف عمر على مبلغ ذلك حقيقة أداه اجتهاده إلى أن يأخذ منهم نصف ذلك. وقد أخرج ابن سعد فى «الطبقات الكبرى» أن عمر بن الخطاب كان قد بعث أبا هريرة إلى البحرين والياً، فلما عاد أتاه بأربعمائة ألف درهم، فقال عمر: أظلمت أحداً؟ قال: لا. قال: أخذت شيئاً بغير حقه؟ قال: لا. قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرون ألفاً. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر. قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه واجعل الآخر فى بيت المال. وقد أورد ابن عساكر فى «تاريخ دمشق» هذا الأثر وفيه أن أبا هريرة قال: فأغرمنى -يقصد عمر- اثنى عشر ألف درهم. قال: فقمت فى صلاة الغداة (الفجر) فقلت: اللهم اغفر لأمير المؤمنين.

نقلا عن الزميلة "الوطن"