أمنحتب الثالث.. فرعون الخروج؟ قراءة أثرية جريئة تعيد فتح ملف من أكثر قضايا التاريخ جدلًا
في إطار أنشطة صندوق التنمية الثقافية، قدّم مركز إبداع قصر الأمير طاز الصالون الثقافي لمؤسسة زاهي حواس للآثار، والذي خُصص لندوة فكرية موسعة بعنوان:
«رؤية جديدة حول فرعون الخروج وفق مصادر الشرق القديم والكتب السماوية»، ألقاها عالم المصريات والمرشد السياحي والباحث في علم المصريات الدكتور طارق فرج، وسط حضور لافت من المهتمين بالدراسات الأثرية والتاريخية والدينية.
واقعة الخروج بين التأكيد والجدل
استهل الدكتور طارق فرج حديثه بالتأكيد على أن علماء الكتاب المقدس أنفسهم هم من أقرّوا بحدوث واقعة خروج بني إسرائيل بالفعل وعلى أرض مصر، باعتبارها واقعة تاريخية مؤكدة، وإن ظل توقيتها الدقيق محل خلاف ولم يُحسم بعد. وأوضح أن الجدل حول الواقعة بدأ في الغرب، ثم انتقل لاحقًا إلى الشرق، متأثرًا بقراءات غير منضبطة لبعض الباحثين المعاصرين.
وتوقف عند أطروحة الدكتور كمال الصليبي التي طرحها في كتابه «التوراة جاءت من الجزيرة العربية»، والتي اعتمد فيها على حجج لغوية وجغرافية لبعض مناطق عسير، معتبرًا إياها موقع الخروج بدلًا من مصر، مشيرًا إلى أن هذا الطرح، رغم ضعفه علميًا، أوقع بعض الباحثين وكتّاب وسائل التواصل الاجتماعي في خلط تاريخي ومنهجي.
الخروج في عصر الدولة الحديثة
أوضح المحاضر أن إجماع علماء المصريات يضع واقعة الخروج في عصر الدولة الحديثة، تحديدًا ما بين الأسرات 17 و18 و20، مع وجود آراء ترجّح القرن السادس عشر قبل الميلاد، استنادًا إلى لوحة الأربعمائة عام. غير أن هذه الآراء لا تزال قيد البحث، خاصة في ظل مبالغات العهد القديم حول أعداد الخارجين وأعمار الأنبياء، والتي يرى أنها نتجت عن تصحيف وتحريف في عصور متأخرة.
وأشار إلى إشكالية سرد الحدث في التوراة، متسائلًا: كيف يُنسب إلى موسى تحديد تاريخ ميلاده ووفاته ودفنه، بينما من دوّن النص هو المحرر اللاحق؟ وهو ما خلق أزمة حقيقية في التسلسل التاريخي للأحداث.
الكتب السماوية والآثار.. منهج البحث
وشدد الدكتور طارق فرج على أن الكتب الدينية ليست مراجع أثرية أو تاريخية مباشرة، وإنما يُستأنس بها لتعزيز الحجة الأثرية لا لاستبدالها بالدليل المادي. فالاستشهاد بالقرآن أو العهد القديم هنا هو استشهاد تعزيزي، وليس مرجعية علمية مستقلة.
وانتقل بعدها إلى محور الندوة الرئيس: من هو فرعون الخروج؟
فراعنة محتملون.. وترجيح جديد
استعرض الباحث الآراء التي رجّحت وجود أكثر من فرعون عاصر موسى، أحدهما ربّاه في القصر، وآخر واجهه عند عودته. وأشار إلى أسماء طُرحت سابقًا مثل: أحمس، تحتمس الثالث، حتشبسوت، مرنبتاح، أمنحتب الثاني، ورمسيس الثاني، بل ووصل الأمر عند بعضهم إلى ترشيح خوفو، استنادًا إلى تشابهات لغوية واسم «هامان».
وأوضح أن رمسيس الثاني طُرح بقوة بسبب مدينة «بر رمسيس» المذكورة في التوراة، ثم جرى ترشيح ابنه مرنبتاح اعتمادًا على لوحة إسرائيل وحالة موميائه، التي اعتُبرت – خطأً – دليل غرق. لكن كل هذه الترشيحات، بحسب فرج، تظل تكهنات في غياب الدليل الأثري اليقيني.
أمنحتب الثالث.. فرعون الخروج؟
قدم الدكتور طارق فرج طرحه الجريء بترشيح الملك أمنحتب الثالث ليكون فرعون الخروج، وهو بحث عرضه لأول مرة عام 2007 في احتفالية دولية لتكريم الباحث عبد الحليم نور الدين، ونُشر في جزأين بمجلة «آفاق»، وأثار وقتها ردود فعل واسعة في الأوساط العلمية.
وأشار إلى أن أهمية البحث دفعت شخصيات ومؤسسات علمية عديدة للتواصل معه، نظرًا لأنه يقدّم اسمًا جديدًا مدعومًا بقرائن متعددة.
مانيتون و«رؤية الإله»
استند فرج إلى نصوص المؤرخ المصري مانيتون، الذي ذكر واقعة غريبة عن ملك يدعى «أمنوفيس حور»، قال عنه: «كان يرغب في أن يرى الإلهة»، وهي عبارة أثارت تساؤلات كبيرة، إذ إن الآلهة كانت حاضرة في المعابد. وقد نقل هذه العبارة أكثر من ستة مؤرخين بنفس الصيغة والمعنى.
وربط الباحث هذه العبارة بما ورد في القرآن الكريم:
﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ…﴾
مفسرًا ذلك برغبة أمنحتب الثالث في رؤية إله موسى في السماوات العُلى.
وأوضح أن صيغة «الآلهة» عند مانيتون ربما جاءت نتيجة تحريف يوناني للفكرة الأصلية، لتتوافق مع الفكر التعددي اليوناني.
هامان وقارون.. قراءة أثرية للأسماء
أكد المحاضر أن البحث عن شخصيات مثل هامان وقارون بأسمائهم العربية في الآثار غير علمي، بسبب اختلاف اللغات واللهجات وتحوّر الأسماء عبر العصور. لكنه حاول تتبع قرائن محتملة.
ففي رسائل تل العمارنة، لفتت انتباهه شخصية نافذة تُدعى «يانهام»، كان الأمراء يراسلونه للتوسط لدى الفرعون. كما أشار إلى نقش اكتشفه الدكتور نبيل حبشي في جزيرة سهيل بأسوان لشخص يُدعى «حومن»، كان مديرًا للإنشاءات الملكية، وأمره الملك باقتطاع ست مسلات دفعة واحدة، وهو إنجاز غير مسبوق.
وبيّن أن اسم «حومن» قد يكون مشتقًا من «أمنحتب»، وأن محو آثاره لاحقًا يوحي بتنكيـل متعمد، ما يفتح باب التساؤل: هل كان هذا هو هامان؟
أما قارون، فربطه بشخصية «باخورو» المذكورة في رسائل العمارنة، مسؤول شمال الإمبراطورية، موضحًا كيف يمكن لغويًا أن يتحول الاسم عبر الزمن إلى «قارون».
التأليه المطلق والتماثيل العملاقة
أكد فرج أن أمنحتب الثالث هو أول فرعون يؤلّه نفسه في حياته، وليس بعد موته، وفرض عبادته باعتباره الإله الأوحد، وجسّد نفسه في صور تجمع بين بتاح وأوزير وسوكر. كما كان أول من أقام تماثيل عملاقة تجاوز ارتفاعها 18 مترًا.
وتساءل: أين اختفى معبده الجنائزي الهائل الذي وصفه جيمس هنري بريستد؟ ولماذا زالت آثاره بالكامل على عكس معابد أخرى تعرضت لزلازل وبقيت أطلالها؟
الزلزال الكبير.. مصر وبلاد الشام
ربط الباحث بين اختفاء آثار أمنحتب الثالث ونصوص قرآنية تتحدث عن التدمير والخسف، مرجحًا حدوث زلزال هائل في أواخر عهده. وأشار إلى دراسات أثرية في فلسطين أكدت دمار مدن مثل أريحا دون أثر لغزو عسكري، مع العثور على جعارين تعود لعصر أمنحتب الثالث.
واستشهد ببردية «إيبوِر» التي تصف كارثة شاملة ضربت مصر من الدلتا حتى أسوان، مرجحًا أنها شهادة معاصرة لأحداث الخروج، رغم الجدل حول تأريخها اللغوي.
المرض والغرق والنجاة بالبدن
أثار فرج نقطة شائكة حول وفاة الفرعون، موضحًا أن الغرق في القرآن لا يعني بالضرورة الموت الفوري. وطرح تصورًا بأن أمنحتب الثالث أُشرف على الغرق ثم أُنقذ معطوبًا، ما أدى إلى مرض عضال انتهى بوفاته لاحقًا، مستشهدًا بالآية:
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾
ومفسرًا النجاة هنا بأنها بقاء الجسد حيًا فترة ليكون آية، لا مجرد لفظه ميتًا.
وأشار إلى رسائل تل العمارنة التي تؤكد مرضه، وإلى تكاثر تماثيل الإلهة سخمت المرتبطة بالأوبئة، وطلبه من ملك بابل إرسال الإلهة عشتار لعلاجه.
موسى في القصر الملكي
أكد الباحث أن موسى تربى في القصر الملكي، في مدرسة الـ«كب» المخصصة للأمراء، وتعلّم حكمة المصريين ولغتهم، وهو ما تؤكده التوراة نفسها. ورجّح أن اسمه الأصلي كان مصريًا، ثم جرى استبداله لاحقًا، ما يصعّب تتبعه أثريًا.
خلاصة
اختتم الدكتور طارق فرج محاضرته بالتأكيد على أن ترشيح أمنحتب الثالث كفرعون الخروج يظل فرضية علمية مدعومة بقرائن قوية، لكنها مفتوحة للنقاش والبحث، في انتظار الدليل الأثري القاطع. مشددًا على أن تاريخ مصر القديم لا يزال يحمل أسرارًا كبرى، وأن البحث العلمي الحقيقي هو السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة.
أقرأ ايضاً| «أوراق شمعون المصري» تعبر إلى الفارسية.. رواية الهوية والتاريخ ترى النور في طهران بترجمة إيرانية رفيعة


.jpg)

.png)













.jpeg)


.jpg)



