كتب بلا أصول ومترجمون بلا أثر.. اتهامات تهز دار نشر عراقية بتزييف الترجمة والمعرفة
على امتداد عقود طويلة، شكّل المشهد الثقافي العراقي أحد أعمدة الفكر العربي، وأسهم بفاعلية في إنتاج المعرفة الأدبية والفكرية والفلسفية، وكان حاضرًا بقوة في السياقين العربي والعالمي. غير أنّ هذا الدور التاريخي أخذ يتراجع خلال السنوات الأخيرة، في ظل أزمات متراكمة أصابت البنية الثقافية، وانعكست في تقلص الإنتاج الجاد، والانكفاء على إعادة طباعة الأعمال، أو حصر النشاط الإبداعي في أنماط محدودة، أبرزها الشعر، بما لا ينسجم مع العمق الحضاري للعراق ومكانته الثقافية.
في هذا السياق المأزوم، برزت مؤخرًا اتهامات خطيرة تطال «دار إلكا» للنشر، التي تديرها الدكتورة فاطمة بدر، تتعلق بتقديم أعمال منسوبة إلى كُتّاب وهميين، ومترجمين لا وجود لهم، مع تسويق هذه الإصدارات على أنها ترجمات لكتب أجنبية نادرة أو مراجع فكرية وتاريخية موثوقة. وقد جرى الترويج لتلك الكتب عبر الصفحات الرسمية للدار، وكذلك عبر الصفحات الشخصية للقائمين عليها، من بينهم الدكتورة فاطمة بدر، والروائي علي بدر.

وتستند هذه الاتهامات إلى عمليات فحص نصي وفهرسي لعدد من الإصدارات، كشفت – بحسب القائمين على التحليل – أن هذه الأعمال مؤلفات مختلقة بالكامل، تحمل أسماء مؤلفين غير موجودين، وتُنسب إلى مترجمين بلا أي أثر مهني أو أكاديمي، بينما تظهر النصوص في مجملها وكأنها مكتوبة بأسلوب أقرب إلى إنتاج نماذج الذكاء الاصطناعي، ثم تُطرح للقارئ بوصفها كتبًا مترجمة أو مصادر معرفية معتمدة.
وأظهرت مراجعات لعدد من العناوين، من بينها:
«عاصفة ستالين: كيف قتل ستالين رفاقه»،
«الحسن الصباح: قراءة جديدة في السيرة والتاريخ»،
«الدولة الفاطمية من السر إلى الدعوة»،
«الإمبراطورية الصفوية: كيف غيّرت الشرق الأوسط إلى الأبد»،
«أبو العباس السفاح: شريعة الدم في التأسيس السياسي للدولة في الإسلام»،
«هتلر والنساء»،
«فضائح الأدباء الجنسية»،
«فيلم إيمانويل 1974»،
و«الصحفي النيويوركي»،
أن القاسم المشترك بينها جميعًا هو غياب أي وجود حقيقي للمؤلفين المنسوبة إليهم هذه الكتب.

فالأسماء الأجنبية الواردة على الأغلفة، مثل: أنا ريابوفا، ريكا هيغيدوش، ألان بادرسن، إيلي فون بادربن، شانون شميت، جوني روندن، باترك فرهالست، وإليزابيت شتاينر، لا يظهر لها أي حضور في سجلات المؤلفين العالمية، ولا في قواعد بيانات الدوريات العلمية، ولا في أرشيف الجامعات، ولا حتى في أبسط أشكال الوجود الرقمي. كما أن بعض هذه الأسماء يبدو مركّبًا بصورة لغوية لا تتسق مع البيئات الثقافية أو اللغوية التي يُفترض أن تنتمي إليها. وحتى في الحالات التي يُستدعى فيها اسم كاتب معروف، مثل ديفيد برايس–جونز، تشير الاتهامات إلى أن الاسم استُخدم لتمرير كتاب بعنوان ومحتوى لا يمتّان بصلة إلى أعماله الأصلية.

ولا يختلف حال المترجمين عن المؤلفين. فبعض الكتب صدرت من دون ذكر اسم المترجم، بينما حملت كتب أخرى أسماء أشخاص مقرونة بألقاب أكاديمية مثل «دكتور» أو «باحث»، من قبيل: د. مجد مسعد، د. شيار حسن، جوزفين عاقل، وغيرهم، دون أن يكون لأي منهم وجود موثّق في الأوساط الأكاديمية أو المهنية، أو سجل معروف في حركة الترجمة. فلا سير ذاتية، ولا أعمال منشورة أخرى، ولا مشاركات علمية أو ثقافية معروفة، ما يعزز الشكوك حول كونهم مترجمين وهميين.
ويزداد هذا الانطباع وضوحًا عند قراءة ما يُفترض أنه «نص مترجَم»، إذ تغيب تمامًا خصائص الترجمة بوصفها فعلًا لغويًا وثقافيًا، لتحل محلها نصوص عامة، مسطّحة، مكتوبة بلغة إنشائية، خالية من الإحالات والمراجع، ومليئة بأخطاء مفهومية وتاريخية يصعب تصور صدورها عن مترجم حقيقي يعمل على نص أجنبي موثوق.

وتكشف مراجعة المضامين، وفقًا للاتهامات، أن هذه الكتب لا تعود في أصلها إلى أي مؤلف أجنبي، بل أُعيد إنتاجها عربيًا بطريقة تفتقر إلى المنهج والصرامة العلمية، وتعتمد على معلومات مختلقة أو مجتزأة أو بلا سياق. ففي كتاب «عاصفة ستالين» يظهر سرد مضطرب لا يشبه الأدبيات التاريخية الروسية أو الغربية المعروفة. وفي كتب «الحسن الصباح» و«الدولة الفاطمية» و«الإمبراطورية الصفوية» نجد استرسالًا في معلومات غير موثقة لا يمكن إسنادها إلى أي مرجع أكاديمي. أما كتاب «فيلم إيمانويل 1974» فيحمل نبرة عربية خالصة لا تمت بصلة لكتابات النقد السينمائي الأوروبي، في حين يكشف كتاب «الصحفي النيويوركي» عن خطأ فادح حين يخلط بين مؤلفه المفترض هاملتون هولت وتشارلز ديكنز، الذي وُضع اسمه باللغة الإنجليزية على الغلاف إلى جانب عنوان روايته الشهيرة «الأزمنة الصعبة»، في واحدة من أكثر صور التزوير وضوحًا وسذاجة.
ولا تتوقف الإشكالية عند النصوص والأسماء، بل تمتد إلى تفاصيل النشر ذاتها. إذ تحمل جميع الكتب أرقام ISBN غير مسجلة في قواعد البيانات الدولية، ما يشير – بحسب المنتقدين – إلى أن هذه الأرقام مصطنعة، وأن الإصدارات بلا هوية قانونية معترف بها. كما لا يظهر أي أثر لدار نشر أجنبية أصلية يُفترض أن الكتب مترجمة عنها، فلا عناوين أصلية، ولا تواريخ إصدار، ولا طبعات سابقة. ويزيد من الشبهات استخدام شعار متكرر باسم “TIVOLI” أو “قصص ترفولي” على أغلفة الكتب، وهي تسمية تعود إلى دار نشر معروفة في بلجيكا، غير أن البحث في إصداراتها الرسمية لا يُظهر أيًا من هذه العناوين، ما يوحي – وفق الاتهامات – باستخدام الاسم كواجهة شكلية لإيهام القارئ بالمصدر الأوروبي.

وتخلص هذه الوقائع، بحسب منتقدي الدار، إلى أن ما جرى لا يمكن اعتباره خطأ مهنيًا عابرًا، بل يمثل تزييفًا حقيقيًا للمعرفة، يضلل القارئ، ويشوّه صورة الترجمة والبحث العلمي، ويفتح الباب أمام تداول مواد مضللة قد يعتمدها طلاب وباحثون غير مدققين بوصفها مراجع أكاديمية. وتزداد خطورة الأمر مع وصول هذه الإصدارات إلى رفوف معرض العراق الدولي للكتاب، وهو حدث ثقافي رسمي يفترض به الالتزام بأعلى معايير الجودة والمصداقية.
إن عرض هذه الكتب في فعالية بهذا الحجم يثير تساؤلات حادة حول آليات الرقابة، ومسؤولية اتحاد الناشرين العراقيين، ودور وزارة الثقافة، وإدارة المعرض نفسها. كيف مُنحت هذه الدار مساحة عرض بينما تفتقر إصداراتها إلى أبسط مقومات الشرعية المهنية؟ ومن يتحمل مسؤولية تمرير هذا القدر من الخداع المعرفي إلى فضاء يمثل العراق ثقافيًا أمام العالم؟

وتأتي هذه الاتهامات في ظل صمت كامل من دار النشر وصاحبتها، مع تجاهل واضح للرد على ما أُثير من تساؤلات وانتقادات، الأمر الذي فاقم السجال الأخلاقي حول أصول هذه الأعمال ومترجميها، وألقى بظلاله على سمعة الدار في توقيت بالغ الحساسية، يتزامن مع مواسم المعارض الدولية للكتاب، التي يُفترض أن تكون منصات لنشر الإبداع الحقيقي، لا فضاءات لتداول نصوص مُقلّدة بأسماء مستعارة، تُقدَّم على أنها «معرفة»، بينما هي – في نظر منتقديها – مجرد وهم مُنسّق بغلاف جذاب.


.jpg)

.png)















.jpg)



