هل تلفت أوروبا من فخ الرئيس الأمريكي؟.. صنع أزمات عديدة
منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مقاليد الحكم، أخذ مسار العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة منحنى مختلفًا، إذ أصبحت القارة العجوز تبحث في التكلفة السياسية والاقتصادية والديمقراطية، التي تحملتها نتيجة خيارها القائم على الاسترضاء وتجنب المواجهة، الأمر الذي أسهم في تعميق تبعية أوروبا وإضعاف وحدتها الداخلية، وفق مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، فعندما عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى منصبه يناير 2025، وجدت أوروبا نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما، فقد رافقت عودته مطالب صارمة بزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، وتهديدات بفرض تعريفات جمركية شاملة على الصادرات الأوروبية، إضافة إلى تحدٍ مباشر للقيم الأوروبية المرتبطة بالديمقراطية وسيادة القانون.
ووفق «فورين أفيرز»، كان بوسع القادة الأوروبيين اتخاذ موقف جماعي تصادمي، أو اختيار مسار الاستسلام السياسي، لكن من وارسو إلى وستمنستر، ومن ريجا إلى روما، اختارت الغالبية الساحقة من العواصم الأوروبية المسار الثاني، وبدلًا من الإصرار على التفاوض مع واشنطن كشريك متكافئ، أو تفعيل مفهوم الاستقلال الإستراتيجي، الذي طالما رددته بروكسل، تبنى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، ومعهم دول غير أعضاء مثل المملكة المتحدة، نهجًا قائمًا على الخضوع التلقائي والمستمر لمطالب ترامب.
ويرى أنصار هذا الخيار في أوروبا أنه كان عقلانيًا، فبحسب هذا المنطق، فإن مقاومة مطالب ترامب الدفاعية، أو الدخول في تصعيد تجاري مشابه لما فعلته الصين، أو حتى فضح نزعاته الاستبدادية، كانت ستلحق ضررًا مباشرًا بالمصالح الأوروبية، وكان الخوف الأكبر يتمثل في احتمال تخلي الولايات المتحدة عن أوكرانيا، أو انسحابها من حلف الناتو، أو اندلاع حرب تجارية شاملة عبر الأطلسي، حيث يشير تقرير «فورين أفيرز» إلى أن هذا التبرير يتجاهل عاملًا حاسمًا يتمثل في السياسة الداخلية الأوروبية، فصعود اليمين الشعبوي المتطرف لم يعد ظاهرة أمريكية فقط، بل بات واقعًا سياسيًا في عدد متزايد من دول الاتحاد الأوروبي، حيث يوجد هذا التيار إما في السلطة أو كأكبر قوة معارضة.
الأخطر من ذلك، أن سياسة الاسترضاء نفسها أسهمت في تعزيز نفوذ اليمين المتطرف، فمن خلال التنازل في ملفات الدفاع والتجارة والقيم الديمقراطية، عززت أوروبا القوى التي تسعى صراحة إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي من الداخل، وبذلك تحولت إستراتيجية التعامل مع ترامب إلى فخ سياسي يؤدي لنتائج عكسية، ويرى التقرير أن الخروج من هذه الدوامة يتطلب استعادة أوروبا لدورها الفاعل، فبدلًا من انتظار يناير 2029 على أمل انتهاء الأزمة، يتعين على الاتحاد الأوروبي التوقف عن التذلل وبناء سيادة أكبر تمكنه من تحييد القوى السياسية، التي تنخر وحدته من الداخل.
وفي المجال الدفاعي، يعتبر التقرير أن موافقة أوروبا على مطالب ترامب المتعلقة بزيادة الإنفاق العسكري، جاءت نتيجة الخوف أكثر مما هي نتاج تقييم إستراتيجي مستقل، إذ إن الحرب في أوكرانيا حرب أوروبية بالأساس، وأمن القارة مهدد بشكل مباشر، وشكَّل الاجتماع في المكتب البيضاوي بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فبراير 2025، إشارة مقلقة لاحتمال تخلي واشنطن عن كييف، وعلى هذا الأساس، أقر الحلفاء الأوروبيون في قمة الناتو، يونيو 2025، بمخاوف واشنطن، وتعهدوا برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، مع شراء المزيد من الأسلحة الأمريكية لدعم المجهود الحربي الأوكراني.
ويقر التقرير بأن هذه الجهود أسفرت عن بعض النتائج، مثل استمرار الدعم غير المباشر لأوكرانيا وتوسيع العقوبات على شركات نفط روسية، وعدم انسحاب واشنطن من الناتو، لكنه يؤكد أن هذه النتائج تعود بالدرجة الأولى إلى تعنت بوتين، لا إلى نجاح الدبلوماسية الأوروبية، وتوضح «فورين أفيرز» أن أوروبا فشلت رغم كل ذلك في انتزاع دعم أمريكي إضافي لأوكرانيا، كما فشلت في دفع ترامب لتبني حزمة عقوبات شاملة جديدة ضد روسيا. والأخطر أن القارة لم تطور حتى الآن إستراتيجية دفاعية طويلة الأمد مستقلة عن الولايات المتحدة.
ويشير التقرير إلى أن هدف الإنفاق الدفاعي البالغ 5% لم ينبع من تقييم أوروبي واقعي، بل من رغبة في إرضاء ترامب، وفي الوقت نفسه، وافقت دول كبرى مثل فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة على هذا الهدف رغم علمها بصعوبة تحقيقه ماليًا، ويربط التقرير هذا القصور بنقص الطموح الأوروبي المرتبط بتصاعد النزعات القومية، فبينما نجح الاتحاد الأوروبي، خلال جائحة كورونا في حشد أكثر من 900 مليار دولار، لم يتمكن اليوم من جمع سوى نحو 170 مليار دولار، لمواجهة تهديد أمني خارجي أكبر بكثير.
وفي الملف التجاري، ترى «فورين أفيرز» أن استسلام أوروبا لمطالب ترامب كان أكثر تدميرًا، فالاتحاد الأوروبي -رغم ضعفه العسكري- يعد قوة اقتصادية كبرى بفضل سوقه الموحدة، وكان بإمكانه التفاوض من موقع قوة، خاصة عند فرض ترامب رسومًا جمركية على الصلب والألومنيوم، في فبراير 2025، أو خلال رسوم أبريل 2025، ويشير التقرير إلى أن هذا الانقسام بلغ حدًا دفع شركات كبرى مثل فولكس فاجن ومرسيدس وبي إم دبليو للتفاوض منفردة مع واشنطن، وفي نهاية المطاف، قبل الاتحاد الأوروبي رسومًا جمركية بنسبة 15% على معظم صادراته، يوليو 2025، وهي نسبة أعلى مما حصلت عليه المملكة المتحدة.
أخطر أشكال التنازل الأوروبي، بحسب التقرير، كان في مجال القيم الديمقراطية، وفي عام 2025، صعّد ترامب هجماته على حرية الصحافة والمؤسسات المستقلة، وامتدت هذه المواجهة إلى أوروبا عبر تدخلات مباشرة من نائب الرئيس جيه دي فانس، ووزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم في انتخابات ألمانيا وبولندا ورومانيا.
ويورد التقرير أمثلة واضحة، من بينها لقاء فانس بزعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا وانتقاده سياسة العزل، وهجومه على قرار المحكمة الدستورية الرومانية، إضافة إلى دعم "نويم" العلني لمرشح يميني متطرف في بولندا. ورغم ذلك، التزمت قيادة الاتحاد الأوروبي الصمت، أملًا في الحفاظ على التعاون مع واشنطن.


.jpg)

.png)



.jpg)



