لطيفة البقمي ترصد تحولات الهوية وتفكك أسطورة الحب المثالي لدى جيل الألفية وما بعده
ضمن فعاليات مهرجان الديودراما 2025 بالطائف، الذي تنظمه جمعية المسرح والفنون الأدائية، قدمت الأكاديمية والناقدة المسرحية الأستاذة الدكتورة لطيفة البقمي قراءة تحليلية معمقة للعرض المسرحي "ليلى والدب قيس"، للكاتب العماني أسامة زايد والمخرج السعودي موسى أبو عبدالله، واصفةً العمل بأنه مرآة عاكسة للتحولات الاجتماعية والثقافية المتسارعة، ومحاولة جريئة لتقويض السرديات الرومانسية التقليدية لصالح واقعية جيل الألفية وما بعده، يأتي المسرح في سياق التحولات الاجتماعية والثقافية المتسارعة ويعبر عن المواقف والقيم التي يتبناها المجتمع، مما يجعله أداة فاعلة لفهم تغيرات الهوية الجندرية وتمثلات المرأة في الفضاء الثقافي، العرض يقوض فكرة الحب المثالي (الرومانسي التراجيدي)، ويعلن أنّ أبطال اللحظة الراهنة يعيشون واقعًا مختلفًا تمامًا عمّا رسّخته الحكايات التراثية.
وأوضحت البقمي في قراءتها أن العرض لا يكتفي باستعادة حكاية (قيس وليلى) التراثية، بل يعمد إلى قلبها رأساً على عقب في إطار ساخر يُسائل التغيرات الجندرية؛ حيث ينكسر في العرض نموذج "الفارس العاشق"، ليحل محله قيس المعاصر: شاب جامعي، سائق صهريج، وبائع شاورما، يحمل سكيناً بدلاً من السيف، وينتمي لطبقة اقتصادية مسحوقة تجعله يطلب "البقاء" بدلاً من "الحب". في المقابل، تظهر "ليلى" كذات فاعلة ومبادرة، ابنة لطبقة ميسورة تمتلك رفاهية الحلم والمطالبة بالمساواة، مما يبرز التفاوت الطبقي الحاد الذي يجعل العلاقة بين الطرفين صداماً بين "الرغيف" و"الخيال"، وبين الواجبات والأحلام.
وأشارت الناقدة إلى أن العرض يفكك مفهوم الحب لدى الجيل الجديد، حيث لم يعد ذلك الذوبان الصوفي والتراجيدي، بل تحول إلى علاقات "مرنة، سريعة، وقابلة للتفاوض"، مما يعكس وعي جيل يعيش علاقات افتراضية ومتشظية، تجعل المشاعر أقرب إلى التجربة الاستهلاكية.
كما أشادت "البقمي" بالرؤية السينوغرافية للعرض، حيث تحولت العلامات البصرية (مثل لوحة السيارة "DOB 95"، والأزياء الحديثة كبدلة الشيف والفستان الأحمر) إلى دلالات رمزية تخدم حالة الاغتراب والزمن الاستهلاكي، كما نوهت بالأداء الحركي المتقن للممثلين عقيل الماجد وإلهام علوي، وقدرة المخرج على توظيف الإضاءة لتجسيد الحالات النفسية المتقلبة.
ووفق رؤيتها النقدية للعرض، أشارت إلى أن خطاب العرض تشكل من مستويات عدة يمكن اجمالها في الآتي:
• انكسار نموذج الفارس التقليدي: يقدّم العرض قيس بصفته نموذجًا معاكسًا تمامًا للفارس العاشق: شاب جامعي يعمل عملين (بائع شاورما وسائق صهريج ماء)، يحمل سكينًا ومسنًّا بدلا من السيف، يهرب من الحب، ويميل للصمت، ينتمي لطبقة مسحوقة اقتصاديًا. إنها إعادة تفكيك لصورة الفارس التراثية، عبر تقديمه في صورة الشخصية الضعيفة، المترددة، والأكثر إنسانية وحداثة.
• المرأة كذات فاعلة: أما ليلى فتأتي شخصية مبادِرة، ناقدة، وذات صوت واضح في العلاقة والحب والزواج. تطالب بالمساواة والحرية، تسائل قيس وتضغط عليه، وتسخر من تردده. لكنها في الوقت نفسه مشدودة إلى خطاب الحب الرومانسي وصورته الكلاسيكية. إنها امرأة "هجينة" بين التقليد والمعاصرة، تجسّد خصائص جيل الألفية وما بعده الذي يعيش ازدواجية بين الإرث والحداثة.
• التقاطع الطبقي: قيس ينتمي لطبقة (كادحة) ويعيل أسرته، بينما ليلى ابنة مدير تنفيذي تنتمى لطبقة (ميسورة ( هذا الفرق الاجتماعي ينعكس على فهمها للحب ليلى تعيش رفاهية اجتماعية تستطيع أن تحلم. أما قيس المنهك اقتصاديًا فلا يملك حتى رفاهية "الحلم". رفاهية العيش تجعل ليلى تطلب "الحب"، بينما قيس يطلب "البقاء". إنهما يجسدان انقسام الجيل بين الخيال/الرغيف، وبين الأحلام /الواجبات.
• مفهوم الحب بين الذوبان والمرونة: العلاقة بين "ليلى " و"قيس" تُظهر اختلاف في العلاقات التقليدية؛ فهو لا يتورط عاطفيًا، ويظهر أحيانًا أخرى لا مباليا تجاه ليلى وفكرة الحب، ما يربك ليلى التي تحبه. الحب هنا ليس "ذوبانًا" في الآخر، بل علاقة مرنة، سريعة، قابلة للتفاوض. وهو تفسير يرجع لفهم جيل الألفية وما بعده للحب ، فهو يعيش علاقات "متسارعة، متشظيه، افتراضية" تجعل الحب أقرب إلى التجربة الاستهلاكية منه إلى المصير التراجيدي.
سعى المخرج لتقديم رؤية مسرحية جمالية، لكنها لم تسر على وتيرة واحدة حيث كانت عناية المخرج بالإمتاع الحسي أفقدت العرض تماسكه وسقط في تسطيح الفكرة وتفككها في بعض المواضع نذكر منها:
1- الاشكال في رسم الشخصيات وتطور دوافعها: لم يفصح العرض عن الأسباب التي تجعل قيس يرفض الحب، و دوافع ليلى في بحثها المحموم عن " قيس جديد" كان من الضروري تضمين مبررات اجتماعية واضحة للشخصيتين، خصوصًا أن خلفياتهما موجودة في النص الأصلي (فقر قيس ومسؤولياته، ورفاهية ليلى). حتى في الأحلام ظهر الفارق؛ فقيس يحلم بالثروة أو الشهرة، بينما تبحث ليلى عن الحب.
2- البعد القيمي: شكّل حذف صورة الأم – التي أضافها المعد/المخرج إضعافًا لأحد الأبعاد القيميه المهمة في العرض، خصوصًا أن العرض كان يبني على جملة محورية «لا أعلّق على الجدار إلا أغلى ما أملك»، إلى جانب الإشارة الدالة «والدتي تخاف الأماكن العالية». هذا التعبير بدا متأثرًا – ربما دون قصد – بخطاب اجتماعي يهمّش حضور الأم في سرديات الفخر والانتماء، ويمنح الأب وحده مركز الاعتزاز الرمزي. وهكذا خسر العرض فرصة توسيع أبعاده الإنسانية والاجتماعية عبر إبراز حضور الأم كقيمة عاطفية ومعنوية أساسية في حياة قيس.
3- ضعف اللغة في بعض الحوارات المعدة عن النص الأصلي كاستخدام اللغة الإشهارية : ( أنت مو أنت وأنت جيعان) – ( صادوه) أفقد النص تماسكه الجمالي. والحوار بين قيس وأستاذته الذي جاء على لسان الشخصيات باللغة الإنجليزية لم يضف شيئا للعرض.
وفي الختام، أكدت الأستاذة الدكتورة لطيفة البقمي، أن عرض " ليلى والدب قيس" قدم قراءة حديثة وعميقة للتحولات في الأدوار الاجتماعية وتمثلات المرأة والجندر ضمن وعي جيل الألفية وما بعده، مسلطًا الضوء على الصراع بين التقليد والحداثة، وبين ما يرغب الجيل الجديد في إعادة صياغته من هوية ودور اجتماعي. ورغم بعض الثغرات التنظيمية واللغوية، يظل العرض محاولة جريئة لنسف النموذج الرومانسي المثالي وطرح رؤية جديدة للحب والعلاقات في عصر تتسارع فيه إيقاعات الحياة وتتغيّر فيه أولويات الأفراد.


.jpg)

.png)


.jpg)


.jpg)
.jpg)
