شرارة الحرب العالمية: أمريكا تشعل الكاريبي وتحالف الشرق يعلن التحدي

تقرير : هالة عبد الهادي
تشهد العلاقات بين واشنطن وفنزويلا تصعيدًا غير مسبوق، بعدما دفعت الولايات المتحدة بأسطول عسكري ضخم إلى البحر الكاريبي المحيط بفنزويلا يشمل مدمرات مزودة بصواريخ، وسفينة إنزال برمائية، وغواصة نووية، تحت ذريعة مكافحة شبكات تهريب المخدرات. كما رفعت المكافأة للقبض على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى 50 مليون دولار، متهمة إياه بالاتجار بالمخدرات وتمويل الإرهاب وقيادة "كارتل الشمس".
هذه الخطوة تُمثل ذروة استراتيجية "الضغط القصوى" التي تتبناها واشنطن ضد نظام مادورو منذ سنوات، لكنها هذه المرة تحمل أبعادًا عسكرية واضحة. ما دفع حكومة مادورو إلي اعتبار نشر السفن "تهديدًا عسكريًا مباشرًا"، معلنة التعبئة العامة، وتجهيز القوات والميليشيات الشعبية، ورفع شعار "الجمهورية في السلاح" واستعداد بلاده لحرب دفاعية ضد أي تدخل أجنبي. فيُصور مادورو الأمر كـ"غزو وشيك"
في المقابل، ترى المعارضة الفنزويلية في التحركات الأميركية فرصة لإسقاط "نظام مادورو الاستبدادي" وإعادة فنزويلا إلى الحظيرة الدولية. وتطمح واشنطن من خلال هذه الخطوات إلى عزل النظام الفنزويلي وتجفيف مصادر تمويله، وربما إحداث انقسام داخلي يؤدي إلى إسقاطه من الداخل، إضافة إلى تعزيز هيمنتها في منطقة الكاريبي والسيطرة على الموارد النفطية الهائلة في البلاد. فهذا جزء من رؤية أوسع للهيمنة الأمريكية على منطقة الكاريبي
ومن جانب آخر يؤكد بعض المحللين الأميركيين أن الهدف من هذه التفخيمات هو الضغط السياسي، فإن حجم الأسطول الأميركي يجعل التحركات العسكرية المحتملة غير مستبعدة تمامًا خاصة أنه في مساء 2 سبتمبر، أعلنت الولايات المتحدة أنها شنت ضربة قاتلة على سفينة محمّلة بالمخدرات مشتبه بأنها انطلقت من فنزويلا، ما زاد من حدة التوتر في المنطقة.
أعلنت الولايات المتحدة أنها نفذت ضربة “كينيتيكية” استهدفت قارِبًا يُشتبه في نقله مخدّرات انطلق من فنزويلا، ما أسفر عن مقتل 11 شخصًا. هذه العملية العسكرية أثارت موجة جديدة من التوتر، واعتُبرت رسالة مباشرة بأن واشنطن قد تستخدم القوة المميتة في معركتها ضد شبكات التهريب المدعومة ـ بحسب وصفها ـ من حكومة مادورو.
واتهمت كاراكاس البحرية الأميركية باقتحام زورق صيد فنزويلي يعمل في صيد التونة داخل المياه الاقتصادية الخالصة للبلاد، واحتجاز طاقمه لتسع ساعات. وصفت الحكومة الفنزويلية هذه الحادثة بأنها استفزاز مباشر وخرق صارخ للسيادة، ملوّحة بالردّ الدبلوماسي وربما العسكري إذا تكررت مثل هذه الانتهاكات.
و أعلن الرئيس نيكولاس مادورو حالة “الاستعداد الأقصى الدفاعي”، وأمر بنشر قوات إضافية على السواحل والحدود مع كولومبيا، إلى جانب تعبئة ميليشيات المواطنين. مادورو أكد أن بلاده تواجه “تهديدًا أميركيًا مباشرًا”، داعيًا الشعب إلى الاستعداد لخوض حرب دفاعية إذا تطورت الأحداث إلى تدخل عسكري.
كشفت تقارير أن البحرية الأميركية عززت وجودها في منطقة البحر الكاريبي بنشر ثلاث مدمرات وسفن إنزال وربما غواصة نووية، في خطوة وُصفت رسميًا بأنها موجهة لمكافحة تهريب المخدرات. غير أن حجم الانتشار العسكري أعطى إشارات واضحة بأن واشنطن ترسل إنذارًا قويًا إلى حكومة مادورو.
ردّت فنزويلا على هذه التطورات بتصعيد دبلوماسي، إذ وصفت الإجراءات الأميركية بأنها “اعتداء عسكري” وخرق للقانون الدولي، وأرسلت مبعوثين إلى الأمم المتحدة لتقديم شكاوى رسمية. كما بدأت اتصالات مع دول حليفة في أميركا اللاتينية لكسب دعم إقليمي في مواجهة الضغط الأميركي.
في المحصلة، الأزمة الحالية تمثل حرب بين قوتين: الأولى تستخدم اقتصادها وجيشها كورقة ضغط، والثانية تراهن على تعبئة الداخل وحلفاء الخارج للبقاء. التصعيد القائم قد لا يعني حربًا شاملة الآن، لكنه يضع المنطقة على حافة مواجهة يمكن أن تشتعل في أي لحظة و اندلاع موجة عدم استقرار إقليمية خاصة أن فنزويلا تتمتع بدعم من روسيا والصين وإيران.
قمة شنغهاي: فنزويلا ورقة الشرق في مواجهة أمريكا
في ظل هذا التصعيد، جاءت قمة منظمة شنغهاي للتعاون، التي عُقدت بمشاركة الصين وروسيا والهند وإيران، لتؤكد تحول موازين القوى العالمية. حيث ركزت علي تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي بين الدول الأعضاء والتصدي لـ"الهيمنة الأحادية".
كما أكسبت مشاركة فنزويلا في الاجتماعات الأزمة بعدًا جديدًا، إذ تحولت من نزاع إقليمي إلى ورقة ضغط في صراع عالمي أوسع بين الشرق والغرب. واستغلت الصين وروسيا القمة لإرسال رسائل واضحة مفادها أن أي تدخل عسكري أميركي في فنزويلا سيواجه بدعم سياسي وربما لوجيستي لخصوم واشنطن. وبذلك تلاقت أزمة الكاريبي مع أجندة شنغهاي، لتشكّل لوحة مواجهة شاملة بين الولايات المتحدة وحلفاء مادورو في الشرق.
وتُظهر مشاركة فنزويلا النشطة في قمة شنغهاي سعيها للحصول على مظلة سياسية واقتصادية تحميها من العقوبات،و فرصة لتقليل عزلتها الدولية، والحصول على بدائل مالية جديدة. بينما تنظر روسيا والصين إليها كموطئ قدم استراتيجي في نصف الكرة الغربي.
مواقف روسيا والصين
الموقف الروسي
انتقدت موسكو ما وصفته بالضغوط الأميركية الصارخة ضد فنزويلا، مؤكدة تضامنها مع حكومة مادورو. إلا أن مراقبين أشاروا إلى أن الدعم الروسي سيظل على الأرجح في إطار التصريحات والضغط الدبلوماسي، بحكم انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية.
من جانبها، دانت بكين الانتشار العسكري الأميركي قرب السواحل الفنزويلية، معتبرة أنه تدخل في الشؤون الداخلية تحت غطاء مكافحة المخدرات. وتبدو الصين أكثر ميلاً إلى تقديم دعم اقتصادي ودبلوماسي، عبر الاستثمارات والصفقات النفطية، بدلاً من أي انخراط عسكري مباشر مع واشنطن.
هل تدافع روسيا والصين عمليًا؟
تشير التقديرات إلى أن التدخل العسكري المباشر من روسيا أو الصين غير مرجّح في الوقت الحالي، نظرًا لتكلفته العالية ومخاطره الاستراتيجية. لكن من المتوقع أن يستمر الدعم غير المباشر لفنزويلا عبر القنوات الدبلوماسية، والصفقات الاقتصادية، والتغطية الإعلامية، كوسائل ضغط على الولايات المتحدة. وإذا ما تجاوزت واشنطن “الخطوط الحمراء” عبر تدخل بري أو هجوم صريح على الأراضي الفنزويلية، قد يتحول هذا الدعم إلى خطوات أقوى، لكنها ستظل على الأرجح محدودة ومدروسة سياسيًا أكثر من كونها عسكرية مباشرة.
قمة شنغهاي.. مواجهة شاملة بين الشرق والغرب من فنزويلا إلى بولندا.
أبرزت القمة تصاعد التوتر في أوروبا الشرقية، مع نشر روسيا قوات وصواريخ نووية تكتيكية في بيلاروسيا، ورد بولندا بتعزيز دفاعاتها واستدعاء دعم الناتو، لتتحول حدودها الشرقية إلى خط مواجهة متقدم بين موسكو والغرب، بينما دفعت واشنطن بأساطيل بحرية قرب سواحل فنزويلا.
ويؤكد هذا التشابك استراتيجية "تبادل الضغوط" بين موسكو وواشنطن: حصار أميركي لحلفاء روسيا في أمريكا اللاتينية، يقابله تصعيد روسي على حدود الناتو، ما يضع العالم على أعتاب حرب باردة جديدة تُدار بأدوات عسكرية واقتصادية وإعلامية، تربط بين أزمات متباعدة لكنها موحدة استراتيجيًا. كما تعكس القمة استراتيجية كسر الطوق الغربي، ما يجعل القمة منصة لدعم الدول المستهدفة بالعقوبات،أو التهديدات الأميركية. النتيجة هي عالم متعدد الأقطاب تتحرك فيه الأزمات كقطع شطرنج مترابطة. هذا التشابك يجعل من الصراعين وجهين لمعادلة واحدة
تحالف موسكو وطهران: محور مضاد لواشنطن يربط الشرق الأوسط بالكاريبي
ويضيف لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع القيادة الإيرانية بُعدًا جديدًا للمشهد العالمي المضطرب، إذ تسعى موسكو وطهران إلى بناء شراكة استراتيجية حيث تعززروسيا التي تواجه ضغوطًا عسكرية على حدودها مع بولندا وحشد قوات الناتو، تحالفاتها مع إيران، الدولة التي تشاركها مواجهة العقوبات الأمريكية والضغوط الغربية. هذا التحالف يعكس توجهًا لتشكيل محور مضاد للهيمنة الأمريكية، يتجاوز الشرق الأوسط ليصل إلى أمريكا الجنوبية عبر دعم فنزويلا في مواجهة واشنطن.
هذه التحركات الروسية-الإيرانية تتكامل مع ما دار في قمة شنغهاي للتعاون، حيث برز نموذج لعالم متعدد الأقطاب، تتعاون فيه الدول الخاضعة للضغط الأمريكي في الملفات الاقتصادية والعسكرية. بذلك يصبح التصعيد الأمريكي في الكاريبي، والحشد العسكري في أوروبا الشرقية، والتحالفات الروسية-الإيرانية، أجزاء متصلة في لوحة صراع عالمي تُستخدم فيه الأزمات الإقليمية كأوراق ضغط متبادلة بين القوى الكبرى.
تصريح خبير العلاقات الدولية: د. محمد اليمني
وتعقيبا على توترات الأوضاع بين أمريكا وفنزويلا كشف الدكتور محمد اليمني، خبير العلاقات الدولية لجريدة النهار عن وصول العلاقة بين الطرفان لمرحلة الإنفجار مؤكدا أن ذلك ليس وليد اللحظة، فالتوتر بين البلدين دائمًا حاضر، حيث تصدر واشنطن قرارات استفزازية وتمارس السيطرة على المستويين الإقليمي والدولي".
ولفت اليمني إلى أن "العلاقات على كافة الأصعدة، دبلوماسيًا وسياسيًا وعسكريًا، قد تتأثر في المستقبل القريب، وإن كان هذا مستبعدًا في اللحظة الحالية، لكنه قد يظل مطروحًا من الطرفين".
وفي المقابل، أوضح أن "رد الحكومة الفنزويلية على التصعيد هو حق طبيعي لدولة ذات سيادة، وإتخاذها إجراءات مثل التعبئة العامة وإشعار "الجمهورية في السلاح" هو أقل رد ممكن من دولة تمتلك جيشًا ومقومات قوية على كافة الأصعدة دبلوماسيًا وعسكريًا مشيراً إلى أن هذا جاء كرد على التحرشات والاستفزازات والتطورات الملحوظة من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ يناير 2025، في ظل علاقات ليست على ما يرام سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي ، فترى بعض الدول أن لها الكلمة العليا وأن على الدول الأخرى تنفيذ أوامر الولايات المتحدة والدولة العميقة، وهو أمر غير مقبول لأي دولة ذات سيادة.
وأضاف اليمني :"موقف الولايات المتحدة من نشر الأسطول الأمريكي وزيادة المكافأة للقبض على الرئيس مادورو يعد استفزازًا إضافيًا، ويزيد من الاحتقان بين الولايات المتحدة وفنزويلا، وقد يؤدي إلى صدام و قطع العلاقات، وتطور الأمور بين الجانبين بشكل أكبر".
مضيفاً أن فرض الولايات المتحدة رسومًا جمركية على أكثر من 108 دولة كان استفزازيًا وهذا غير مقبول لدى الحكومة الفنزويلية.
أما بالنسبة للمشاركة في قمة شنغهاي فيري خبير العلاقات الدولية أن "مشاركة فنزويلا في قمة شنغهاي والتحالفات الدولية تمثل ردًا دبلوماسيًا طبيعيًا، وهي خطوة إيجابية للدولة، لكن هذه التحالفات الجديدة، بعيدًا عن الولايات المتحدة، تزيد من غضب واشنطن تجاه فنزويلا". مؤكداً أن الانضمام إلى منظمة شنغهاي والتحالفات الدولية يمثل قلة تقدير لأمريكا من قبل الدولة الفنزويلية، ويشير إلى رغبتها في مواجهة العقوبات الأمريكية بالتعاون مع روسيا والصين.
وأخيرًا، أوضح اليمني أن احتمالية الصراع المفتوح، الذي قد يضغط على أي دولة بالأمور الاقتصادية لفرض واقع جديد، قد يتم استخدامه من قبل الولايات المتحدة لفتح جبهات جديدة، بينما تسعى فنزويلا إلي المسارات الدبلوماسية لتفادي المواجهة. ويؤكد أن هذا الأمر يكتسب أهمية خاصة في التوقيت الحرج الحالي بسبب كثرة الأزمات في الشرق الأوسط، لوجوود حروب مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب على قطاع غزة، ومنطقة البحر الأحمر، والجبهات المشتعلة والمتعددة.
وختامًا فإن المشهد العالمي اليوم يكشف عن إعادة تشكيل للنظام الدولي، إذ تستغل القوى الكبرى الأزمات كأدوات استراتيجية لبناء تحالفات عابرة للقارات. بالإضافة إلي ذلك ستشهد السنوات المقبلة مزيد من التصعيد، في ظل تنافس محور تقوده واشنطن مع محور صاعد تدعمه موسكو وبكين ، ما يجعل العالم أمام مرحلة صراع مفتوح ومتعدد الجبهات.