أسامة شرشر يكتب: كيف الخلاص يا رسول الله؟
تتدافع الكلمات والآهات والمعاناة، وتتصارع الأفكار والحياة، وأنت داخل الروضة الشريفة، فى أطهر بقاع الأرض على الإطلاق، وتختلط المشاعر والروحانيات والتناقضات وأنت لا تملك فى أمرك شيئًا أمام هذا النور والطوفان المحمدى الذى لا يعادله نور فى الأرض بعد نور الله فى السماء.
وأقولها بصدق إن التوسعات التى جرت وتجرى فى الحرم النبوى الشريف والحرم المكى تبهر الناظرين وتسعد المعتمرين والزائرين، حيث يقف الجميع مبهورًا أمام الرعاية التى يقوم بها القائمون على الأمر فى المملكة العربية السعودية لخدمة ضيوف الرحمن من كل فج عميق ومن كل بلد بعيد .
وعند رسول الله يدخل الزائرون بذنوبهم ومعاصيهم ويخرجون كما ولدتهم أمهاتهم أحرارًا طاهرين، ليتهم يحافظون على هذا، ولكن إغراءات الحياة والشيطان تجعلهم يشترون الدنيا بالآخرة ويشترون كل شىء مقابل البقاء فى السلطة وعدم الرحيل، لعلهم يعقلون ويعتبرون ولكنهم لا يدركون ولا يتعظون، هذه هى قواعد قابيل وهابيل التى نراها اليوم فى كل المشاهد على كل المستويات.
وأمام ما يجرى فى عالمنا المصرى والعربى، لا بد أن تتوقف كثيرًا وتتأمل فيما يجرى لنا كعرب وكمسلمين من قتل وإبادة ودمار، ونحن نتصارع من أجل ماذا؟ من أجل السلطة؟ أم المال؟ أم النفوذ؟ أم السلطان؟ والمحصلة أن الإنسان المسلم أصبح يُباد ويُهان في كل مكان.
ما جرى فى غزة وفى الضفة الغربية وفى القدس، وما يحدث فى السودان وفى دارفور وما يجرى فى ليبيا وما يتم فى دمشق وجبل الشيخ وصراعات النفوذ والقوى بعدما أصبح «الشرع» من المنظومة التى تسير فى الفلك الأمريكى، كلها تؤكد أننا وصلنا إلى القاع.
كل هذه التساؤلات تدور بداخلى وفى الخلفية ما زال مشهد الانتخابات المصرية فى مراحله الكثيرة التى فقد فيها الإنسان المصرى القدرة على متابعتها بل أصابه الغثيان من نتائجها مرحلة بعد مرحلة وبطلانًا بعد بطلان، خاصة بعدما رأينا مرشحين يخترقون كل قواعد اللعبة بالمال المشبوه الذى جاء من مجهول أو غسل أو آثار، ورأينا مرشحًا إخوانيًا جاء من عباءة التنظيم الدولى للإخوان ليدير أموالهم ويكون صوتهم تحت قبة البرلمان.
كنت أنتوى ألا أكتب فى هذا أو ذاك وأن تكون الزيارة روحانية خالصة لوجه الله، ولكن تعلمنا من الرسول أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأن المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف الذى لا يستطيع أن يجهر برأيه ويرفض ما يجرى.
وكما كررتها مرارًا وتكرارًا، إننا أصبحنا نعيش فى زمن اللامعقول، فى كل شىء، فى المشاعر والروحانيات والتعامل الإنسانى وتصدير الحقد والكراهية والشائعات والأكاذيب، والإنسان يدفع فاتورة كل هذا وذاك.
من يترجم مشاعره وإخلاصه وحبه لبلده وأرضه إلى أفعال على أرض الواقع؟ أصبحت الحياة مختزلة فى كلام وكلام بعيدًا عن المعانى والمواقف والمبادئ، والتمسك بالحق ضد الباطل مهما وصل إليه الباطل من نفوذ وجبروت.
وأمام كل هذا الإسهال البشرى، نجد أن المواطن أصبح خارج اللعبة وخارج بؤرة الاهتمام وبؤرة القرار وبؤرة البرلمان الذى من المفترض أن يكون هو صوت المواطن وصوت الشعب، وإذا كان الدستور يؤكد أن الشعب هو مصدر السلطات، فما فعلته حكومتنا بنا جعل المواطن لا وجود له أمام التزاوج غير الشرعى بين سرطان الحكومة ورأس المال، فكان المنتج الذى رأيناه فى الانتخابات خير دليل على ما نحن فيه الآن من مآسٍ حقيقية.
عندما تختفى الطبقة الوسطى فى أى دولة يفقد المجتمع توازنه ووجوده ويصبح الشرفاء المستقلون غرباء أمام ما يجرى من مهازل ورشاوى وشراء الذمم والنفوس على حساب سمعة الوطن والمواطن المصرى العظيم.
وكان التساؤل وأنا فى روضة الحبيب المصطفى: كيف الخلاص من كل ما يجرى حولنا وبداخلنا وفوقنا وتحتنا وفى كل ركن حتى أصبح الهواء الذى نتنفسه معرضًا للبيع فى سوق النخاسة السياسية؟
هل أقولها من أعلى مئذنة فى المدينة المنورة وصوت بلال بن رباح يرج كل أرجاء المعمورة؟ هل أقولها: ارجع إلينا يا عمر؛ حتى تعود العدالة والعدل بين البشر وتعود القوة للإسلام والمسلمين؟
هل أقولها ارجع إلينا يا عمر بن عبد العزيز وأنت خامس الخلفاء الراشدين وكنت تخشى أن تقترب من بيت المال وعشت فقيرًا ومت فقيرًا؛ فخلدك الله والناس والأيام والتاريخ؟
وأنت تزور البقيع تجد عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وأغنى أغنياء المسلمين الذى يجود بما يملك لصالح المسلمين ويجمع القرآن ويتبرع بالأموال للفقراء والمساكين.
وما أحوجنا اليوم إلى على بن أبي طالب أول فدائى فى الإسلام الذى قال قولته الشهيرة: لو كان الجوع رجلًا لقتلته! أى عدالة وأى مواطنة وأى إحساس بالمسئولية وإحساس بالعدالة بين البشر تجرى بين هؤلاء النجوم فى سماء الإسلام والمسلمين؟!
ها هو الحسين ابن بنت رسول الله يرفض رفضًا قاطعًا أن يشتريه يزيد ولو أعطاه خزائن الدنيا كلها، ويقول له «لن أبايعك»، فكان مقتل الحسين فى كربلاء.
أمام هذه النماذج العظيمة التى باعت الدنيا لتشترى الآخرة ولم تبع نفسها للشيطان يقف الإنسان عاجزًا عن التصور، خاصة عندما يرى وضعنا الآن.. فما يجرى هو أننا لا نبيع أنفسنا بل نبيع أوطاننا وتاريخنا وحضارتنا فى ظل التكالب على السلطة، وهو مرض سيطر على الجميع، وأخشى أن يصل إلى مصر وأنا هنا لست منحازًا، ولكنها دولة التلاوة ودولة القرآن ودولة التنوير ودولة الإسلام ودولة التسامح ودولة الأزهر الشريف، عندما تتحدث يقف العالم مشدوهًا إليها وعندما تتكلم يحترمها الآخرون ولا تبيع نفسها للشياطين مهما كانت الإغراءات، ولكم فى عدم تهجير الفلسطينيين عبرة وحكمة وقرار وأقوال وأفعال.
ولكن أنا حزين ومهموم كمصرى وعربى وقومى أننا كعرب نُباع ونُشترى فى سوق التطبيع الجديد، وهو ليس تطبيعًا ولكنه فقدان للهوية وللوطنية وللإنسانية.
ما أحوجنا اليوم إلى هؤلاء! ولكن المشكلة ليست فيهم بل فينا، فهم سخَّروا الحياة وسخِروا منها وطوَّعوها فى خدمة الرسالة المحمدية ونصرة الدين، بينما نحن اليوم نبيع الضمير والأوطان ونرتمى فى الفلك الأمريكى وفى فلك الماسونية العالمية ونبكى على أنفسنا وعلى الإسلام والمسلمين الذين لم يجدوا نموذجًا يُقتدى به، فعندما تسقط كل القيم وكل المبادئ لا تملك إلا أن تتساءل: كيف الخلاص؟!


.jpg)

.png)



.jpg)



