فيروز.. الأم المكلومة، صوت الشرق الذي لم يهدأ يومًا
في صباحٍ بارد من خريف نوفمبر، وُلد صوتٌ سيصبح لاحقًا وطنًا يتسع للجميع، فيروز.. جارة القمر، وصوت الشرق، والأم التي حملت أحزان الناس كما لو كانت أحزانها الشخصية، تُطفئ اليوم شمعةً جديدة في ذاكرة الفن، وليس في العمر، فالأصوات الخالدة لا تشيخ.
خرجت من أزقة بيروت القديمة بصوتٍ يحمل نقاء الصباح الأول، وحملت المدينة معها إلى كل مسارح العالم.
وعلى الرغم من أن الحياة أخذت منها الكثير، ومن وطنها أكثر بقي صوتها ثابتًا، كالأم التي لا تسقط مهما اشتدّ عليها الحزن.
نهاد حدّاد، تلك المرأة التي قدّمت أعمق ما يمكن للأم أن تقدّمه للعالم: حزنًا يليق بالكرامة، وصوتًا يليق بالمحبة، وملامح امرأةٍ لا تزال تقاتل في صمت.
خلف هذا الهدوء الأسطوري، حياة مليئة بالأمومة والجراح والموسيقى والحب والقرارات الصعبة.. حياة امرأةٍ دفعت أثمانًا شخصية أكبر بكثير مما عرفه الجمهور.
طفولة منسية وصوت يحاول النجاة
ولدت في حيّ بسيط من أحياء بيروت، طفلة خجولة، قليلة الكلام، تصحو قبل مطلع الشمس لتسمع موسيقى الإذاعة اللبنانية. لم تأتِ من أسرة فنية، بل أتت من أسرة لبنانية تحمل ملامح المجتمع اللبناني المنهك بمشكلات الوطن والحرب ولقمة العيش، طفلة حملت في صوتها شيئًا أكبر من الفقر ومن الزمن: حزنًا ناعمًا يشبه الندى على نافذة شتوية.
منذ بدايتها في الكورال الإذاعي، لاحظ أساتذتها أن هذا الصوت لا يشبه الأصوات الأخرى، صوت طفلة لكنه "مكسور من الداخل" دون تفسير لكسرته.
العائلة الفنية والعاطفية.. علاقتها بعاصي الرحباني، حبٌّ شديد وصمتٌ أشد
دخلت فيروز عالم الفن الحقيقي عبر الأخوين الرحباني: عاصي ومنصور، لم تكن مجرد شراكة فنية؛ كانت حياة كاملة.
أحبّ عاصي الرحباني، فيروز بطريقة لا تشبه روايات الحب التقليدية، كان شديد الغضب، شديد العبقرية، شديد الغيرة، وشديد التعلّق بصوتها.
هي، بالمقابل، كانت مستقرة وهادئة؛ "أرض ثابتة" لعاصي، خلقا معًا مدرسة موسيقية، مسرحًا جديدًا، وطنًا خياليًا حرّر الناس من واقعهم لكن الثمن كان كبيرًا.
لم يفترقا قط حتى بعد الطلاق، فكلما إنهار عاصي صحيًا كانت فيروز له الأم الراعية المتماسكة خوفًا عليه وحبًا له، حتى أن رحيله نقش جرحًا في روح فيروز، تغيرت من بعده نبرات ونغمات صوتها، رحيل عاصي لم يكن خسارة فنية فقط؛ بل خسارة رجلٍ عرف مفاتيح قلبها، واستطاع أن يسطر بالنغمات ألحان تحكي عن كل حالة مرّت بها.
بعد رحيله، تغيّر كل شيء في فيروز؛ صار صوتها أكثر وجعًا.. أكثر غضبًا.. أكثر أمومة، حتى أغانيها مع زياد الحادة، السياسية، الساخرة، كانت تحمل وجع امرأة فقدت نصف تاريخها الفني والعاطفي.
فيروز.. أمٌّ قبل كل شيء
على الرغم من نجومية فيروز، كانت أمًا حاضرة بحب وخوف، حاضرة بصمت، تؤمن أن البيت ملاذ، وأن ضوضاء الفن يجب أن تكون على مسافة من أولادها وحياتهم، حتى رغم رحبانيتهم وإنغماسهم بالفطرة الموسيقية الفذة.
من بين كل الخسارات التي مرّت بها فيروز، كان رحيل ابنتها ليال الجرح الذي لم يُغلق أبدًا، ليال، الابنة الثالثة شديدة الشبه بفيروز في ملامحها وهدوئها، توفيت فجأة عام 1988.
رحيل ليال كان زلزالًا صامتًا داخل بيت فيروز، لم يسمع الجمهور عويلها، لكن العالم كله رأى آثار الفقد في عينيها خلال سنوات لاحقة.
المرأة التي غنّت للبيوت وللأمهات وللشتاء، وجدت نفسها فجأة بلا قدرة على حماية بيتها الخاص، ليال لم تكن شخصية علنية، ولم تغنِّ، لكنها كانت نبضًا داخل العائلة، ولذلك، كان غيابها فقدًا مضاعفًا: فقدًا لابنة، وفقدًا لقطعة من القلب، وفقدًا لظلّ يرسم ملامح فيروز.
زياد الغائب الحاضر.. الإبن الثائر،الفنان، الكاتب، والملحن الذي حمل منها الحنان، ومن والده حدّة الذهن وتمرد الطموح، علاقة حب معقدة جمعت بين أم كلاسيكية وابن متمرد يرى العالم بطريقة مختلفة.
زياد كان بالنسبة لها الإبن الذي يُقلقها والفنان الذي يُدهشها، والصديق الذي يشبهها أكثر مما اعترف، حتى العداء الذي ظهر في الصحف والإعلام بينهما؛ كان في حقيقته صراع حب أكبر من أن يُشرح أو يُستَوعب.
هو يريد أن يحمي صوتها من "الاحتكار والتحنيط"، وهي تريد أن تحمي إرثها من التجارب والحداثة التي قد تُغضب الجمهور، وكلاهما يريدان أن يمتعوا وجدان الجمهور بوجبة فنية موسيقية تخلد في الذاكرة.
كان زياد يقول إنه يريد فيروز "حية" لا "أيقونة محنّطة"، بينما كانت هي تخشى أن يجرح صوتها بما لا يناسب جمهورها، ومع ذلك لم ينقطع الحب والعطاء ظل يعود، وظلت هي تستقبله، إلى أن رحل من شهور ولم يعد.
أما ريما، فهي سور الحماية لأيقونة الفنية، أقرب أبنائها إليها، وصارت لاحقًا الوصيّة على إرثها الفني والإعلامي، هي التي كانت تكتب عنها وترافقها، وتمنع عنها الضجيج، ومع رحيل زياد أبحت ريما هي درع الأمان الوحيد في حياتها.
الأم التي حملت أحزان وهموم العالم
لم تُغنِّ فيروز للحب فقط، بل غنّت للأمومة، أمومة الحرب والوطن والحرية، وظلت تغني كي للبيت الكبير لبنان، غنّت للموت، للغربة، للشباب الذين لم يعودوا، للبيوت التي سقطت في بيروت، وللأوطان التي لم تجد من يضمّد جراحها.
عندما تغني «يا ست الدنيا يا بيروت»، يبدو أنها تغني لنفسها.. لروحها المجروحة.. لبيتها القديم.. ولأنسانيتها وأمومتها التي تأكل من قلبها كل يوم.
فيروز.. أم جراحها لم تضمد بعد
اليوم، في يوم ميلادها، نحتفل بامرأة قدمت للعالم فنًا لن يناظره منافس، أخفت خلف عبائتها الفنية المبهرة، صراعات حياتية وعائلية وأوجاع من الفقد والحسرة.. رحيل زوج، خلافات أبناء، حروب الوطن وصراع مع الزمن.
امرأة بقلب أم يأوى الجميع، بصوت أثر الآذان وأطرب القلوب وطمئن الأرواح.. صوت فيروز، الأم التي حملت أوجاعها على مهل، وصنعت منها موسيقى تغنى بها العالم.


.jpg)

.png)














.jpg)


.jpg)
.jpg)
