المجاعة.. سلاح حرب عبر العصور

في كل منعطف دموي من التاريخ الحديث، دفعت فيه الإنسانية أثمانا باهظة خلال حروبها، ضحاياها دماء البشر، لم تكن الأسلحة المتهم الأول في إراقة هذه الدماء، حيث بات استخدام الموارد الأساسية، من الطعام والماء والدواء، أدوات للقتل البطيء، لتُخَلِفَ مجاعاتٍ وُلدت من رحم غُرف العمليات العسكرية، وتغذت على الحصار والتجويع الممنهج، فهل أصبح الطعام أداة حرب، وهل أصبح التجويع وسيلة للإخضاع.
خلال القرن العشرين، لم تكن المجاعات مجرد شح في الغذاء، بل سلاحا سياسيا مدمرا، استخدمته أطراف النزاع، لتجويع شعوب بأكملها، فمن روسيا إلى الشام ، ومن أوكرانيا إلى البنجال، واليوم في غزة المكلومة، تلك البقعة الصغيرة التي تبدو على حافة الموت جوعا، هناك قصص تختبئ خلفها حسابات الحروب الدامية.
مجاعة روسيا
في روسيا، كانت أولى المجاعات الحديثة التي صُنعت بقرار سياسي، مجاعة بدأت بفعل الجفاف ثم تفاقمت لمشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى، المجاعة التي استمرت لنحو 4 أعوام من 1914 إلى 1918 ، تفاقمت كون موسكو كَرَّست إنفاقها على الجيش، بينما كان الريف الروسي يموت جوعًا مخلفا نحو 6 ملايين قتيل.
مجاعة الشام
ولم تكن مجاعة روسيا الوحيدة التي سببتها الحرب العالمية الأولى، ففي الشام، التي كانت تحت الولاية العثمانية آنذاك، صادرت الحكومة الأملاك والأراضي الزراعية والمحاصيل لخدمة المجهود الحربي فاجتاحت المجاعة مناطق واسعة من سوريا لا سيما حلب وبيروت وسكان جبل لبنان، مجاعة أودت بحياة نحو ثلث سكان جبل لبنان ونحو 80 ألف نسمة من حلب السورية.
مجاعة أوكرانيا
وكوسيلة لإخضاع السكان في أوكرانيا، فرض جوزيف ستالين، رئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك، سياسات قمعية وحصارا داخليا على القرى المتمرد، جُوع أُدير بإحكام كعقاب سياسي جماعي، أدى إلى وفاة أكثر من 3.5 مليون شخص في مجاعة سميت بالهولو-دومور.. وتعني القتل بالجوع وفق اللغة الأوكرانية.
حصار لينين جراد
حصار لينين جراد، المدينة التي رفضت الخضوع لسياسات هتلر، حصار خَلَّفَ نحو مليون ونصف المليون ضحية للجوع، بعد أن حاصر النازيون المدينة في محاولة لإبادة السكان دون قتال ودخل هذا الحصار التاريخ لكونه أحد أكثر الأحداث مأساوية في الحرب العالمية الثانية.
المجاعة في غزة
واليوم ، غزة تموت جوعا، أمام مسمع ومرأى العالم بأسره، لا نحتاج إلى صور أرشيفية من مجاعات مضت، فمن قلب القطاع المحاصر، تُبث.. وعلى الهواء مباشرة، تفاصيل عدوان إسرائيلي بسياسة ممنهجة، مَنَعَ الغذاء والماء والدواء، وأطبَق َ الحصارَ على أكثر من مليوني إنسان، إلى أن وصل الوضع الغذائي إلى حد الكارثة، بل وبدأ عَدَّاد ضحايا الجوع يرتفع مع مرور كل ساعة.
إنه الجوع، حين يتحول إلى سياسة ممنهجة، أمام صمت دولي مريب، في كل هذه المجاعات، كان الجوع وسيلة، لا نتيجة، في كل مرة، صمت العالم.. ثم كتب التاريخ.
لكن غزة اليوم، ليست للتاريخ فقط، بل للضمير الإنساني، إن بقي فيه شيء، وبين صمت العالم.. وألم الجوع القاتل، كم مجاعة يجب أن يشهدها الإنسان كي يقف في وجه من يستخدم التجويع سلاحا؟