النهار
الإثنين 9 يونيو 2025 10:48 مـ 12 ذو الحجة 1446 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر

ثقافة

«النهار» ترصد العيد الرابع تحت القصف.. فلسطين تُصلي بلا فرحة

مغتربي كلية أصول الدين جامعة الازهر
مغتربي كلية أصول الدين جامعة الازهر

وجوه الأطفال تفتقد البهجة.. والبيوت المهدومة تنتظر ساكنيها الذين لن يعودوا

ليس عيدًا كما عرفناه
في فلسطين، لا يحمل العيد ما يحمله للعالم من زينة وفرح وزيارات عائلية. في أرضٍ تعوّدت على الألم، يُطلّ العيد للعام الرابع على التوالي محمولًا على أكتاف الحرب، مثقلًا برائحة الركام، مبلّلًا بدموع الثكالى، بلا ضحكة، بلا أضحية، بلا عيديّة.

في قطاع غزة المحاصر، يدخل العيد على البيوت المنهارة كزائرٍ غريبٍ بلا وجه، يطرق الأبواب التي لم تبقَ، ويتجوّل بين أطلال المدن بحثًا عن منازل لم تعد مأهولة. في كل ركن، حكاية فَقْد، وفي كل خيمة، دعاءٌ للبقاء.

في غزة، لا تنطلق تكبيرات العيد من مآذن المساجد كما جرت العادة، بل من قلوب تنزف، تنادي الله أن يرحم موتاها، ويُبقي من تبقّى على قيد الحياة. أما الأطفال، فقد صاروا يحفظون تفاصيل الحرب أكثر مما يعرفون أسماء الألعاب. ضحكاتهم انحسرت، وعيونهم امتلأت بأسئلة لا تناسب أعمارهم: “ليه مفيش عيد؟”، “هو بابا راجع؟”، “هو البيت هيتبني تاني؟”

كلية اصول الدين

عيد في الخيمة.. ورماد الذاكرة
في منطقة الزوايدة وسط القطاع، تقف “مي” (24 عامًا) تحت شمس حارقة، ملتحفة بعباءة سوداء، تتحدث بصوتٍ يخنقه الحزن: “ده العيد الرابع وإحنا في حرب. ما فيش لا فرحة ولا ضحكة، ما بقاش في عيد. العيد دلوقتي بقى سؤال: هل هنعيش لآخر اليوم؟ هل هننام وإحنا سُلام؟ هل هنصحى ولا نكون تحت الركام؟”

مي، التي كانت تقضي العيد في شراء الحلوى لأطفالها وتحضير الأضحية، صارت تقضيه الآن في التفكير في كيفية الحصول على طعام يسدّ رمق طفليها. زوجها فقد عينه اليمنى وأصيب في دماغه، وبات عاجزًا عن الحركة. أما صغيراها، فـيعانيان من سوء تغذية ونوبات متكررة من الإسهال والحمى.

“الخيمة بقت هي كل حياتنا.. أوضة النوم، والصالون، والمطبخ، وحتى الحمام. والعيال بتصحى بالليل مرعوبة.. بيصحوا يندهوا: ماما ماما.. خبّيني.”

صلاة العيد.. إعلان حياة
رغم كل شيء، تقام صلاة العيد وسط الأنقاض. تُفترش الأرض بالحجارة المبعثرة، وتُرفَع الأيادي إلى السماء في تضرّع لا ينقطع. خطبة العيد لم تعد دعوة للفرح، بل صارت بكاءً جماعيًا، ودعاءً طويلًا بالبقاء.

أحد أئمة غزة قال لـ«النهار»: “نصلي رغم الحرب، نكبر رغم الموت. بنعلن إنّا لسه هنا. هنعيش.. وهنفرح.. حتى لو على الرماد.”

في ساحات مهدّمة، جلس المصلّون من كل الأعمار، رجالٌ يحملون صور أبنائهم الشهداء، نساءٌ يخبّئن دموعهن خلف النقاب، وأطفالٌ لا يدركون إن كانوا يحتفلون أم يودّعون.

كلية أصول الدين

هدية العيد.. دمية قماش وزجاجة ماء
في مراكز الإيواء، لم تكن هناك عيديّات تقليدية. إحدى الجمعيات وزّعت حقائب صغيرة تحوي قطعًا من البسكويت ودمى بسيطة محشوّة بالقطن المهترئ وزجاجات مياه معدنية.

ليلى، طفلة في السابعة، أمسكت بدميتها المصنوعة من قماش ممزق، وقالت ببراءة: “هي دي عيديتي.. مش أحلى حاجة، بس بحبها. اسمها سوسو.. باخدها معايا كل مكان، حتى في الخيمة.”

الطفلة التي كانت في عيدها الماضي تلعب على دراجة صغيرة، باتت هذا العام تخشى الخروج من محيط الخيمة، حيث صوت القصف لا يرحم، والرعب لا يغادر.


من مخيم النصيرات، تحدّث “وائل” (52 عامًا) قائلًا: “زمان كنا نصحى على تكبيرات العيد، نفرّح ولادنا، ونجهز الضحية. دلوقتي بنصحى على صوت الطيران والقصف. العيد جالنا والبيت فاضي.. مراتي سافرت تتعالج في مصر من السرطان، وأخويا ومراته وبناته استشهدوا. البيت اللي كان بيجمعنا اتهد. إحنا مش عايشين العيد، إحنا بنعدّ غياب الناس اللي كانوا فيه.”

ورغم كل ذلك، يبتسم وائل في النهاية، ويهمس: “لسّه عندنا أمل. رغم كل حاجة، بنضحك علشان نعيش.. وبنعيش علشان نقدر نضحك تاني يوم.”

الأزهر

ميرفت: “والله ما عندي خبز”
في خيمة صغيرة بجوار ركام منزلها، تحكي «ميرفت باسل» رحلتها مع العيد والنزوح والبقاء: “أنا ابني يتيم، متعوّد على أجواء العيد. من سنتين كنا نلبّسه، نروح نركب حصان ونجيب له لعبة. دلوقتي قاعدين في خيمة ما فيهاش لا أكل ولا شرب، لا ميه، ولا خبز. كل اللي حوالينا حرّ وقصف، حتى السلام مش موجود. بس بنقول الحمد لله. بس نفسي الحرب تخلص، وأشوف ابني بيلعب تاني.”

ثم تمسح دموعها بطرف غطاء رأسها، وتضيف: “لو ابني داق حبة شوكولاتة العيد ده، يبقى أنا كده راضية.”

غزة.. خريطة وجع مفتوحة على الله
هكذا يصف الدكتور محمد الهادي السعافين، عضو المجلس الصوفي الأعلى، المشهد من الداخل: “العيد الرابع يمرّ على غزة ولا عيد في غزة. لا مدارس، لا جامعات، لا بيوت. خيام تصهرها الشمس، أجساد نحيلة، أرواح تعبت من السؤال: إلى متى؟ الأطفال بيسألوا: إيه هو العيد؟.. وإحنا نفسنا مش عارفين نجاوب.”

ويضيف بصوت متهدّج: “تعلّقنا بكل بصيص أمل، لكن حين لا يكون الأمل من الله، يخون. الآن لا نتعلّق إلا بالله وحده. نسأله أن يُلين القلوب، ويفتح الأبواب، ويجبر الخواطر.”

الأزهر

عيد بلا طقوس.. وذاكرة بلا فرح
من غزة، تقول رنا أبو يوسف، خمسينية من غزة: “كل عيد من غير فرحة بيخلق جيل مش طبيعي. الحرب سلبت طفولتهم، وزرعت فيهم وعي بدري.. ووعي موجوع.”
وتتابع: “أطفال غزة بيعيشوا حالة اضطراب نفسي مزمن. كل واحد فيهم محتاج حضن وعلاج مش لعب ولبس. بس لو لقوا حب، يمكن ينسوا ولو شوية.”


ومع كل ذلك.. ما زالوا يكبّرون
حتى وإن لم يجدوا أضحية، فإن أرواحهم تُذبح كل يوم. وحتى إن لم يرتدِ الأطفال ثيابًا جديدة، فإنهم يرتدون صبرًا أثقل من أعمارهم، وإيمانًا أوسع من الحصار.

رغم الوجع، تكبّر غزة. رغم الخراب، تُقيم الصلاة. رغم كل شيء، ما زال أطفال فلسطين يركضون، يضحكون، ويحملون رايات صغيرة كتبوا عليها بخط مائل: “سنفرح، ولو بعد حين.”

وفي ختام هذا العيد، لا تجد فلسطين ما تهديه للعالم سوى جملة واحدة: “نعيش لنفرح.. وسنفرح لنعيش. ولو على الرماد.

موضوعات متعلقة