أهداف ودوافع انخراط تركيا عسكريًا في الساحل الأفريقي
كشفت نسرين الصباحي، الباحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أهداف ودوافع انخراط تركيا عسكريًا في الساحل الأفريقي، موضحة أن أنقرة تسعى إلى ترسيخ حضور عسكري وأمني متنامٍ في منطقة الساحل عبر مقاربة تقوم على نفوذ متدرج منخفض التكلفة، مدفوع باعتبارات جيوسياسية وأمنية واقتصادية متداخلة. ويرتكز هذا النهج على توظيف تكنولوجيا عسكرية متقدمة، وإبرام اتفاقيات دفاعية واسعة، وبناء شبكات نفوذ رسمية وغير رسمية، بما يمكّن تركيا من ملء الفراغ الناتج عن تراجع الحضور الفرنسي وتقليص الانخراط الأمريكي، وتحويل منطقة الساحل إلى محور استراتيجي مرتبط بمصالحها الممتدة من غرب أفريقيا إلى ليبيا وشرق المتوسط.
وأكدت في تحليل لها بعنوان «من مورد عسكري إلى فاعل أمني: تحولات الدور التركي في الساحل الأفريقي» نشره المركز، أن أول الأهداف هو بناء شراكات دفاعية حيث تعمل تركيا منذ عام 2020 على إعادة صياغة علاقاتها الدفاعية مع دول الساحل عبر منظومة شراكات شاملة تضم التدريب والتسليح ونقل التكنولوجيا، متجاوزة دور المورد إلى الشريك الأمني، وقد برزت النيجر بوصفها نقطة ارتكاز أساسية لهذا التوجه من خلال اتفاقيات دفاعية تشمل إنشاء قدرات صناعية محلية وتدريب وحدات خاصة وتوريد منظومات متقدمة من الطائرات المسيرة والمدرعات. وتأتي أهمية هذا التوجه من كونه يعد بديلًا عمليًا عن الفجوة التي خلّفها انسحاب فرنسا وفتور التعاون الأمريكي، في وقت تتجه فيه حكومات دول الساحل نحو تنويع مصادر الدعم الأمني. وتستفيد أنقرة من كونها عضوًا في حلف الناتو، وتقدم نفسها بوصفها شريكًا أقل حساسية سياسية مقارنة بالنموذج الروسي الذي يعتمد على الشركات شبه العسكرية؛ مما يمنحها قدرة أكبر على بناء شراكات طويلة الأمد دون صدام مع النخب المحلية أو المؤسسات الدولية.
وأوضحت «الصباحي»، أن ثاني الأهداف هو استراتيجية تمدد محسوبة التكلفة، حيث ترتكز المقاربة التركية على نموذج نفوذ أمني لا يعتمد على انتشار قوات قتالية مباشرة، بل على توظيف التكنولوجيا العسكرية وخدمات الشركات الدفاعية والمستشارين. ويتيح هذا النموذج لأنقرة بناء حضور فعّال دون التكلفة المالية والبشرية التي تتحملها القوى التقليدية، وفي الوقت نفسه يوسع قدرتها على التأثير في تشكيل بنية الأمن الإقليمي. ويظهر ذلك في الانتشار المتنامي للطائرات المسيرة وأنظمة المراقبة، وفي عمليات الإشراف الفني التي يقوم بها المستشارون الأتراك داخل مؤسسات الدفاع المحلية. كما يعزز الوجود الاستخباراتي المتمثل في مركز جهاز الاستخبارات الوطني (MIT) في النيجر قدرات تركيا على جمع معلومات دقيقة حول الجماعات المسلحة والتحركات العابرة للحدود، بما يمنحها موقعًا متقدمًا في بيئة أمنية شديدة التعقيد ومتغيرة.
أما عن ثالث الأهداف بحسب التحليل فهو، تحويل دول الساحل إلى سوق سلاح مستدام: تسعى أنقرة إلى ترسيخ دول الساحل كسوق مستدام للصناعات الدفاعية التركية عبر منظومات متكاملة تشمل السلاح والتدريب والصيانة وقطع الغيار؛ مما يخلق ارتباطًا مؤسسيًا طويل الأمد بين الجيوش المحلية والمنظومات التركية. وقد أصبحت هذه الدول خلال السنوات الأخيرة من أبرز مستوردي الطائرات المسيرة TB2، والمدرعات المتطورة، في تحول يعكس قدرة تركيا على تلبية احتياجات الجيوش التي تبحث عن أدوات قتالية منخفضة التكلفة مقارنة بالمنظومات الغربية. ولا يقتصر هذا الارتباط على الصفقات، بل يشمل بناء قدرات تصنيعية محدودة وفتح خطوط دعم لوجستي؛ مما يجعل دول الساحل جزءًا من شبكة النفوذ الدفاعي التركي الممتدة في أفريقيا والشرق الأوسط.
وضمن الأهداف بحسب «نسرين»، تعزيز الموقع الجيوسياسي لتركيا عبر بوابة الساحل: تمثل منطقة الساحل منصة جيوسياسية تتيح لتركيا توسيع نطاق نفوذها غربًا نحو خليج غينيا وجنوبًا نحو نيجيريا، وربط هذا الفضاء الجديد بامتداد نفوذها في ليبيا وشرق المتوسط. ويُنظر إلى الساحل كحاجز جغرافي مهم يؤثر في ديناميات الهجرة غير النظامية والتجارة والطاقة، وهو ما يمنح تركيا أوراقًا إضافية في تعاملها مع أوروبا. كما يتيح الانخراط في تحالف دول الساحل الذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو فرصة لبناء علاقات قائمة على الشرعية والاعتراف الدولي، مستفيدة من حضورها في المنظمات الأممية والأفريقية ومن مشاركتها في معارض الصناعات الدفاعية، وعلى رأسها معرض باماكو الدولي للدفاع والأمن (Bamex 2025)، الذي كشف عن رغبة تركية واضحة في تحويل المنطقة إلى محور أساسي في استراتيجيتها الأفريقية.
ونوهت إلى أن الأهداف تشمل أيضاً تأمين المعادن والموارد الاستراتيجية، حيث تولي تركيا أهمية كبيرة للمعادن الحرجة المنتشرة في منطقة الساحل، لا سيما الليثيوم والذهب في مالي، واليورانيوم في النيجر، والذهب في بوركينا فاسو، إضافة إلى معادن أخرى مثل الكوبالت والنيكل. وتعتمد الصناعات الدفاعية التركية والتكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة على هذه الموارد؛ مما يدفع أنقرة إلى بناء علاقات اقتصادية وأمنية تضمن استدامة سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على الأسواق التقليدية. ومن هذا المنظور، يصبح الانخراط الأمني أداة لحماية الاستثمارات المستقبلية وتعزيز القدرة على الوصول إلى الموارد في بيئة تتسم بمنافسة دولية محتدمة.
أما عن سادس الأهداف وأخرها، هو الاستفادة من تراجع الحضور العسكري لفرنسا والولايات المتحدة: شهدت السنوات الأخيرة توسعًا محسوبًا داخل المنطقة، مع توجه أنقرة نحو الحصول على مواقع استراتيجية مثل قاعدة أبيشي في تشاد بعد انسحاب القوات الفرنسية والأمريكية، وتوقيع اتفاقيات جديدة مع النيجر في يوليو 2025، إلى جانب حضور متزايد داخل البعثات الأممية. ويعكس هذا التوسع انتقال تركيا من مرحلة الانخراط غير المباشر إلى بناء وجود ميداني محدود لكنه أكثر استقرارًا، يتيح لها متابعة عمليات التسليح والتدريب عن قرب، ويعزز مكانتها كفاعل أمني لا يقتصر على بيع العتاد العسكري بل على إدارة جزء من البنية الأمنية
نفسها.


.jpg)

.png)



.jpg)



