في محاولة لتحديد مفهوم ”قيم وأخلاقيات المجتمع”.. لماذا تُحاكم سوزي؟
القيم هي منظومة من العادات والأعراف والأخلاق التي تتشكل داخل أي مجتمع بتوافق أفراده عليها، لتصبح بمثابة قوانين غير مكتوبة تنظم سلوك الناس خارج إطار السلطة السياسية. وقد شغل هذا المفهوم الفلاسفة والمفكرين منذ سقراط وحتى سارتر، كما تناولته التيارات الدينية المختلفة بحثًا عن نسق أخلاقي يرسخ الاستقرار ويقلل من الصراع داخل المجتمع.
يتميّز المجتمع المصري بتركيبته الفريدة التي تجمع بين أنساق ثقافية متعدّدة، لكنها قادرة على التعايش والتأثير المتبادل. فالثقافة المصرية تستوعب ما يختلف عنها، إمّا بإعادة تشكيله وفق منظومتها أو برفضه إذا هدد توازنها الداخلي.
وعن معايير القيم في المجتمع المصري، يقول الدكتور محمد كمال، أستاذ فلسفة القيم بجامعة القاهرة: "القيم والأخلاق ليست ثابتة أو مطلقة، بل تتغير بتغير الزمان والظروف. فالمجتمع المصري مكوّن من طبقات وتوجهات فكرية ودينية متباينة، وتأثّر في العقود الأخيرة بالعولمة والتكنولوجيا تأثيرًا سلبيًا أكثر منه إيجابيًا، رغم استمرار الدين والموروث الثقافي كمصادر أساسية للقيم الإيجابية."
ويضيف أن الجهات التي كان يُفترض أن تحدد المعايير الأخلاقية – كالنخبة الثقافية والإعلامية والمؤسسات الدينية – شهدت تراجعًا واضحًا خلال العقدين الماضيين، مما سمح بصعود "نخب جديدة" تمثل بدورها الانهيار القيمي ذاته. وبحسب كمال، أصبح الرأي العام تابعًا لما تزرعه منصات التواصل الاجتماعي، التي رسخت أنماطًا جديدة من السلوك، وأنتجت بدائل سطحية للأخلاق التقليدية.
التكنولوجيا وتبدّل منظومة القيم
أدى توسع التكنولوجيا وظهور "المجتمع الرقمي" إلى تداخل الثقافات والقيم بين الشعوب. ومع العولمة، أصبحت المجتمعات تخضع لاختبار دائم بين الأصالة والمعاصرة. فكل قيمة جديدة تُستورد من الخارج تمر بمرحلة تمحيص داخلي، وتثير جدلًا حول مدى انسجامها مع البنية الاجتماعية والسياسية المحلية.
حتى محاولات ضبط الفضاء الإلكتروني عبر "معايير المجتمع" التي تفرضها المنصات الكبرى فشلت في خلق اتفاق موحد، لأن كل منصة تضع معاييرها الخاصة. ونتيجة لذلك، بات المستخدمون يبحثون عن فضاءات رقمية أوسع تمنحهم حرية تعبير أكبر بعيدًا عن القيود والوصاية الفكرية.
الفن بين الإبداع والرقابة الأخلاقية
في المجال الفني، تبرز معضلة أخرى: هل يمكن إخضاع الإبداع لمعايير الأخلاق؟
يقول الناقد الفني محمود قاسم إن ما يحدث في مصر هو جزء من المشهد العالمي: "الفنان معروف لدى الجمهور، الذي يملك بدوره القدرة على الاختيار والنقد. فالفن بطبيعته حر ومتعدد، والمجتمع يميّز بين ما يقبله وما يرفضه، والدين يبقى معيارًا أساسيًا في تشكيل الوعي الأخلاقي."
الفن، بحسب قاسم، ليس خروجًا عن المنظومة القيمية بقدر ما هو اختبار دائم لحدودها، وهو ما يجعل التفاعل بين المبدع والجمهور جزءًا من العملية القيمية ذاتها.
سوزي.. بين القانون والقيم
قضية سوزي – التي أثارت جدلًا واسعًا – ليست سوى نموذج لفكرة الخروج عن المألوف. فهي وإن استخدمت تعبيرات مثيرة للجدل، لم تخرج عن الإطار القانوني. وأي إجراء ضدها يُعد محاولة لفرض وصاية فكرية في ظل غياب تشريع واضح يحدد "القيم والأخلاق".
فالقانون لا يُعاقب على الاختلاف، بل على الأفعال التي تضر بالآخرين، مثل الفعل الفاضح أو تخريب الممتلكات. أما التعبير عن الرأي أو السلوك المختلف فلا يُعد جريمة ما لم يخالف نصًا قانونيًا صريحًا.
وتوضح الخبيرة القانونية أمل سعيد أن عبارة "قيم وأعراف المجتمع المصري" مطاطة ولا تستند إلى أي نص قانوني محدد، بل تُستخدم في بعض القضايا كمبرر لإدانة أشخاص خرجوا عن المألوف. وتضيف: "ما يُقدَّم على المنصات الاجتماعية لا يختلف كثيرًا عمّا يُعرض في وسائل الإعلام أو في الأعمال الفنية التي تتجاوز أحيانًا المألوف دون أن تُلاحق قضائيًا، مما يكشف عن غياب معيار قانوني واضح لتلك التهمة."
مما يوضح أن القيم ليست نصوصًا جامدة، بل كائن اجتماعي متغير يتشكل بإرادة الناس لا بقرارات القضاء. وما دامت القوانين لم تُشرّع تعريفًا محددًا لماهية "قيم المجتمع"، فإن محاكمة المختلفين بدعوى انتهاكها تظل إشكالية تمسّ جوهر حرية التعبير نفسها.


.jpg)













.jpg)


.jpg)

.jpg)
