لطفي لبيب تجرد من البطولة ونجح في التأثير على الجمهور بأعماله الفنية البارزة

بعالم باتت فيه الأضواء هدفًا بحد ذاتها، وزاحمت البطولات المطلقة القيم الفنية الأصيلة، يظل الفنان لطفي لبيب نموذجًا فريدًا لفنان يؤمن برسالته، ويتعامل مع الفن كقيمة سامية وليست مجرد وسيلة للشهرة. إنه الممثل الذي لا يبحث عن عناوين ضخمة أو دور البطولة، بل يترك أثره الأعمق في القلوب والعقول، ويصنع لنفسه مكانة نادرة في وجدان المختص والجمهور على السواء من خلال مئات الشخصيات التي أداها بصدق فريد.
عاش لطفي لبيب بدايات مغايرة لمسيرة كثير من الفنانين؛ وُلد في بني سويف عام 1947، وتخرج في كلية الآداب ثم التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، لكن القدر اختار له طريقًا آخر أولًا. فقبل أن يقف على خشبة المسرح، عاش تجربة استثنائية في الخدمة العسكرية، والتي قادته للمشاركة الفعلية في حرب أكتوبر المجيدة لست سنوات كاملة. هذه التجربة رسمت ملامح شخصيته الصلبة وأثرت في نظرته للحياة، وأصبحت لاحقًا مصدرًا أساسيًا لصدق أدائه الفني، وقد وثق رحلته تلك بكتابه "الكتيبة 26"، مسجلًا قصص البطولة والخوف والانتصار ووفاء الأصدقاء تحت راية الوطن.
بعد عودته من الجبهة، بدأ مسيرته الفنية بشكل جاد. ورغم أن شهرته الواسعة لم تبدأ فعليًا إلا في منتصف التسعينيات، إلا أنه عوض هذا التأخير بفيض غزير من الأعمال المتنوعة في السينما والمسرح والتليفزيون، ليصبح جوكر التمثيل المصري وصاحب الحضور المستمر في معظم الأعمال المهمة.
لكل دور أداه لطفي لبيب خصوصيته؛ فما بين الضحك الذكي والثقل الدرامي، تبدو بساطته العفوية وعمقه واضحين بلا افتعال. عُرف بأداء أدوار الشر بشكل إنساني غير نمطي، كما أبدع في شخصيات العسكري القاسي، المسؤول الفاسد، الزوج البسيط، الطبيب الرقيق والكاهن المؤثر. من أعماله الفنية البارزة كذلك: شخصية اليهودي المصري في "رأفت الهجان" والتي قدمها بعيدًا عن الكليشيهات، وأدوار الأب والصديق والمواطن البسيط في الدراما الاجتماعية كـ"نقل عام"، "الدالي"، و"حديث الصباح والمساء".
أما السينما، فقد كانت دومًا رمانة الميزان في حياته الفنية. فحتى وإن لمْ يمنحه صناعها البطولة المطلقة، إلا أن وجوده في أي عمل كان يضفي على الفيلم توازنًا وقيمة خاصة. تألق في أفلام "السفارة في العمارة" حيث لعب واحدًا من أشهر أدواره وأعمقها تأثيرًا، وجعل الناس يرددون اسمه مع اسم الشخصية التي لم يفصل بينها الجمهور وبين آرائه الوطنية الراسخة. كما تميز في "خيال مآتة"، "ضغط عالي"، و"قهوة بورصة مصر"، إضافة إلى تعاونه الدائم مع كبار النجوم مثل عادل إمام ومحمد هنيدي في العديد من الأفلام الجماهيرية.
أما عن التليفزيون، فقد فتح له آفاقًا أوسع للتعبير عن مواهبه، وبرز نجمه في عشرات المسلسلات التي كان فيها مثالًا للفنان القادر على إحداث الأثر العميق بنظرة عين أو نبرة صوت هادئة دون صخب أو مبالغة. في "نقل عام" قدم نموذجًا للبساطة والشخصية الواقعية، أما في "حديث الصباح والمساء" و"رسالة من البيت" فقد جسد بأقل الكلمات مشاعر متراكبة وصراعات داخلية مع برودة الأعصاب التي يشتهر بها.
ورغم كل إنجازاته في السينما والمسلسلات، لم يفارق عشقه الأول للمسرح؛ حيث شارك في عروض مميزة مثل "ليلة من ألف ليلة" مع يحيى الفخراني، و"مسافرين" و"جات على غفلة"، التي جمعت النقد الاجتماعي بالأداء الكوميدي الحساس.
يُحسب لطفي لبيب هدوؤه واتزانه النفسي طوال مشواره وسط شراسة الساحة الفنية، فقد ابتعد دومًا عن الصراعات واكتفى باحترام ذاته وفنه وجمهوره. وهو يؤمن أن الفنان الحقيقي لا يعتزل، بل يعمل حتى آخر لحظة، وهو ما يظهره دائمًا في أدائه وتواضعه رغم كل التكريمات التي حظي بها تقديرًا لمسيرته.
لطفي لبيب ليس مجرد اسم في ذاكرة الفن المصري، بل علامة مضيئة تعلمنا منها أن الأثر الحق يُقاس بما يتركه الفنان من حب وقيم وفن صادق باقٍ في الوجدان. هو صاحب البصمة الخاصة والنكهة المختلفة، المثال للفنان الذي لا يَفنى في الضجيج بل يرن له صدى خالد في القلوب، ونتعلم منه ما تعجز المناهج عن شرحه: أن الجوهر يسبق الشكل، وأن القيمة الحقيقية هي ما يبقى في القلب والعقل بعد انطفاء الأضواء.