فريدة فهمي.. حين يتحوّل الجسد إلى قصيدة تُكتب على خشبة المسرح

في زمن كانت فيه الكلمة هي سيدة التعبير، ظهرت هي بلغة أخرى تمامًا لغة الجسد ترقص فلا تتبع نغمة فقط، بل تروي حكاية. تتحرك فلا تؤدي مجرد عرض، بل تجسّد وطنًا وهوية. إنها فريدة فهمي، التي لم تكن فقط وجه فرقة رضا الأشهر، بل روحها النابضة، وعقلها الفني، وأحد أهم أيقونات الاستعراض في تاريخ مصر والعالم العربي.
اليوم، 29 يونيو 2025، تحتفل فريدة بعيد ميلادها الخامس والثمانين، حاملة في خُطاها سيرةً لا تُشبه سواها، وذاكرةً مشحونة بالإبداع، من خشبات مسارح العالم، إلى دفاتر الباحثين والدارسين.
من الطفولة إلى الاحتراف.. ميلاد فراشة
ولدت فريدة حسن فهمي في القاهرة عام 1940، لأسرة تعشق الفن والعلم. والدها، المهندس حسن فهمي، كان عميدًا لمعهد السينما، ووالدتها الإنجليزية التي أسلمت لاحقًا وشاركت في تصميم أزياء فرقة رضا.
بدأت موهبتها في سن صغيرة جدًا، ووقفت لأول مرة على خشبة مسرح كلية الهندسة بعمر 8 سنوات، ترقص بثقة وشغف. لاحقًا، درست الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، ثم حصلت على دكتوراه في الرقص الإيقاعي من الولايات المتحدة، عن أطروحتها التي تناولت الأسلوب الفني لمحمود رضا، مؤكدة أن الحركة يمكن أن تكون لغة كاملة تنطق باسم الوطن.
فريدة ورضا.. تأسيس مدرسة جديدة
انضمت فريدة إلى فرقة رضا عام 1959، وكانت الوجه الأبرز والأكثر إشراقًا في عروضها، ليس فقط كراقصة، بل كمؤسسة لفكر استعراضي جديد: دمجت الرقص الشعبي المصري مع تقنيات الباليه والمسرح الغربي. وقدّمت عروضًا لا تُنسى مثل وفاء النيل ورنة خلخال، ومثلت مصر في أكثر من 30 دولة، وساهمت في تشكيل صورة راقية للفولكلور المصري عالميًا. وبحركتها الراقية، وقدرتها على التعبير الصامت، جعلت من الرقص فنًا فكريًا، لا مجرد استعراض جسدي.
على الشاشة أيضًا.. سحر لا ينطفئ
في الستينيات والسبعينيات، خطفت فريدة الأنظار على الشاشة الفضية، وشاركت في أفلام حققت نجاحًا جماهيريًا واستعراضيًا كبيرًا، منها:
إجازة نصف السنة (1962)
غرام في الكرنك (1967)
حرامي الورقة (1970)
أسياد وعبيد (1978)
رغم أن السينما لم تكن هدفها الأول، فإنها منحتها أفقًا آخر للانتشار، ورسّخت صورتها كنموذج للفنانة الراقية التي تجمع بين الموهبة والانضباط والوعي الثقافي.
الاعتزال والعطاء الفكري
اعتزلت فريدة في أوائل الثمانينيات، بعد وفاة والدتها وزوجها علي رضا، لكنها لم تبتعد عن الفن، بل انتقلت إلى فضاء التعليم والبحث الأكاديمي:
نشرت أبحاثًا حول الرقص الشعبي كمصدر للهوية الثقافية.
ألقت محاضرات دولية، وأشرفت على ورش تدريبية لمتخصصي الرقص المسرحي.
أكدت دائمًا أن "الرقص ليس تسلية، بل خطاب يحمل الذاكرة والهوية".
تكريمات مستحقة
لم تكن فريدة يومًا بعيدة عن دوائر التكريم، فقد حصلت على:تكريم رسمي من الرئيس جمال عبد الناصر في الستينيات.
وتكريم رئاسي جديد عام 2022 من الرئيس عبد الفتاح السيسي ضمن احتفالية "الأم المثالية"، في لحظة مؤثرة جعلتها تبكي أمام عدسات الإعلام، مشيرة إلى أن "أجمل هدية هي أن يُقدّر الوطن أبناءه".
مذكراتها... الجسد يتكلم
مؤخرًا، صدرت مذكرات فريدة فهمي باللغة الإنجليزية، ومن المقرر ترجمتها للعربية قريبًا، حيث كشفت فيها أسرار تأسيس فرقة رضا، وحكايات من كواليس العروض، وتوثيق للرقصات التي ساهمت في حفظ التراث، مثل:
رقصة الحجالة من قبائل أولاد علي.
رقصة التحطيب الصعيدي.
رقصة "صقفة سيوة" الصامتة، بلا موسيقى.
فريدة فهمى.. أيقونة لا تتكرر
ليست فريدة فهمي مجرد راقصة، بل رؤية فنية متكاملة. جسدها كان منصّة تُعبّر عن مصر بكل طبقاتها وثقافاتها. كانت الطيف الذي يمرّ بين الفلكلور والحداثة، بين الذاكرة الحركية والمستقبل المسرحي.
وفي عيد ميلادها الـ85، نرفع القبعة لأيقونة أثْرت وجداننا الفني، وتركت لنا أرشيفًا حيًا لا يصدأ، ودرسًا خالدًا في كيف يكون الجسد وطنًا يتحرّك.