العوامل المفسرة لاهتمام أنقرة بالأزمة الفنزويلية.. كواليس مهمة
كشفت ماري ماهر، الباحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، عن العوامل المفسرة لاهتمام أنقرة بالأزمة الفنزويلية، موضحة أن مجموعة من العوامل حكمت الموقف التركي من التصعيد العسكري الأمريكي الحالي تجاه فنزويلا في إطار ما سمته الولايات المتحدة حملة لمكافحة المخدرات لكنه ينطوي بشكل غير مباشر على ضغوط تجاه نظام الرئيس نيكولاس مادورو تهدف إلى دفعه خارج الحكم، أبرزها وضع نفسها كأحد الأطراف الدولية الفاعلة في الأزمة، حيث لا تشكل فنزويلا استثناءً من عقيدة السياسة الخارجية التركية القائمة على الموازنة بين الأطراف المتعارضة، والتي تعتمدها أنقرة كأداة لتعظيم دورها الإقليمي والدولي واكتساب أوراق نفوذ في الأزمات الدولية. وفي هذا الإطار، طبقت تركيا النهج ذاته في التعامل مع الأزمة الفنزويلية؛ إذ وازنت بين كونها جزءًا من المنظومة الغربية واحتفاظ قيادتها بعلاقات إيجابية مع ترامب من جهة، واستمرارها في الحفاظ على علاقات سياسية واقتصادية مع حكومة نيكولاس مادورو من جهة أخرى، شملت مجالات التعدين والتجارة والتعاون في مواجهة العقوبات الدولية، لإظهار قدرتها على ممارسة نفوذها في مناطق بعيدة عن محيطها المباشر ومعززة مكانتها في الجنوب العالمي وفي مناطق تتمتع فيها واشنطن بنفوذ تقليدي.
وذكرت الباحثة في دراسة بها بعنوان «حسابات التوازن: كيف تعظم تركيا أوراقها الجيوسياسية المحدودة في أزمة فنزويلا؟»، نشرها المركز، أن هذه المقاربة المتوازنة تمنح أنقرة فرصة لزيادة وزنها في الأزمة الراهنة بين واشنطن وكاراكاس؛ إذ يمكن أن تستغل موقعها لدى الطرفين للعمل كقناة اتصال خلفية لنقل الرسائل، بما يعزز قيمتها الجيوسياسية لدى الولايات المتحدة عبر إظهار قدرتها على العمل داخل مجال نفوذها الحيوي. ويأتي ذلك في لحظة يتزايد فيها الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي بنصف الكرة الغربي، خصوصًا بعد أن خصصت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في 4 ديسمبر 2025 مساحة واسعة لتعريف الدور الأمريكي في المنطقة وإعادة تأكيد مبدأ مونرو؛ الأمر الذي يفتح المجال أمام الحلفاء، ومن بينهم تركيا، للعب دور شركاء داعمين في إدارة أزمات الإقليم.
وفي هذا السياق، طُرحت تركيا –ضمن عدة بدائل أخرى شملت روسيا وبيلاروسيا وإيران وكوبا– كإحدى الوجهات المحتملة لاستضافة مادورو حال قرر الخروج من السلطة، فقد أشارت صحيفة واشنطن بوست في تقرير بتاريخ 25 نوفمبر الفائت، كما ألمح السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام في منشور على منصة إكس يوم 29 نوفمبر، إلى أن تركيا قد تكون من بين الخيارات المطروحة لاستضافة مادورو في حال مغادرته الحكم. ويأتي طرح أنقرة اتصالًا بعدة اعتبارات منها؛ العلاقات الإيجابية بين أردوغان ومادورو، وعدم تصديقها على نظام روما الأساسي؛ مما يعني أنها غير ملزمة تلقائيًا بتنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، ومن ثم تصبح ملاذًا قانونيًا آمنًا بالنسبة للقيادة الفنزويلية، التي تواجه تحقيقات في لاهاي بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، علاوة على العلاقات القوية بين الرئيسين أردوغان وترامب التي قد تدفع واشنطن للقبول بهذا الدور، بحسب الباحثة ماري ماهر.
وذكرت أنه من ضمن العوامل، تأمين مصالحها الاقتصادية الحيوية، حيث تمتلك تركيا مصالح اقتصادية مع فنزويلا تسعى إلى تأمينها في حال تغيّر النظام السياسي، تتركز بشكل رئيسي في قطاع الذهب؛ إذ أسهمت العقوبات الغربية المفروضة على كاراكاس في دفعها للاعتماد على أنقرة كمنفذ خارجي بديل. ففي هذا الإطار، قام البنك المركزي الفنزويلي بإرسال كميات من الذهب النقدي «الذهب الذي يمتلكه البنك المركزي كجزء من الاحتياطيات الرسمية للدولة، ويستخدم كأداة مالية ونقدية وليس لأغراض صناعية أو استهلاكية» إلى مصافي التكرير التركية لمعالجته وتحويله إلى سيولة نقدية، بما يتيح لإدارة نيكولاس مادورو الوصول إلى العملات الأجنبية خارج نظام سويفت، متجاوزة بذلك القيود المالية الأمريكية، وتشير بعض التقديرات إلى تخزين ما بين 9 و17 طنًا من ذهب البنك المركزي الفنزويلي في كل من إسطنبول وأنقرة ضمن هذه الآلية.
وأوضحت أنه لا تقتصر استفادة أنقرة على توفير إمدادات الذهب الفنزويلي إلى سوق المعادن النفسية؛ إذ تعاد توجيه الموارد المتحصلة من عمليات الذهب نحو استيراد المواد الغذائية والسلع الأساسية من الشركات التركية، التي تستخدم في تمويل برامج الدعم الحكومي الفنزويلية، وعلى رأسها لجان الإمداد والإنتاج المحلية، وتحقق هذه الآلية مكاسب مزدوجة لتركيا؛ فمن جهة يضمن لها تدفقات مستقرة من الذهب الفنزويلي، في ظل امتلاك فنزويلا احتياطات ضخمة يقدرها البنك المركزي بأكثر من 7 آلاف طن تنتظر الاستخراج، إلى جانب إنتاج سنوي تراوح بين 20 و40 طنًا خلال عامي 2023 و2024 وفق تقارير مجلس الذهب العالمي. ومن جهة أخرى، يعزز هذا الدور موقع أنقرة كشريك اقتصادي لا غنى عنه لكاراكاس في ملف الأمن الغذائي، بما يراكم لها نفوذًا اقتصاديًا وسياسيًا.
وأكدت أنه لا تقتصر المصالح التركية في فنزويلا على قطاع التعدين والذهب فحسب، بل تمتد لتشمل شبكة أوسع من الروابط التجارية والاقتصادية التي تسعى أنقرة إلى حمايتها من تداعيات الاضطرابات السياسية المحتملة، فعلى سبيل المثال، علقت الخطوط الجوية التركية رحلاتها إلى فنزويلا مؤقتًا خلال نوفمبر الماضي، عقب تحذير أصدرته إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية دعت فيه إلى توخي الحذر الشديد عند التحليق فوق الأجواء الفنزويلية وجنوب البحر الكاريبي بسبب مخاطر أمنية محتملة، وذلك بعد أن كانت تسير ثماني رحلات أسبوعيًا بين البلدين، وقد دفع هذا التطور حكومة كاراكاس إلى إلغاء تراخيص الطيران الممنوحة للخطوط الجوية التركية.
وأيضًا، تسعى أنقرة إلى الحفاظ على مستوى العلاقات الاقتصادية والتبادلات التجارية مع فنزويلا والعمل على زيادتها، بعدما بلغ حجم التجارة الثنائية نحو 665 مليون دولار عام 2024، مع طموحات متبادلة لرفع هذا الرقم خلال السنوات المقبلة، وقد اتخذ البلدان عدة خطوات لدعم هذا الاتجاه، أبرزها تدشين خط بحري مباشر في 15 سبتمبر 2025 بين الموانئ التركية والفنزويلية، بهدف تقليص زمن شحن البضائع من أكثر من 60 يومًا عبر المسارات غير المباشرة إلى نحو 25 يومًا فقط، وقد أبحرت أول سفينة عبر هذا الخط في 20 أكتوبر الماضي محملة بنحو 400 حاوية، بما يعادل 10 آلاف طن من البضائع التركية، كما جرى تأسيس غرفة التكامل الاقتصادي الفنزويلية–التركية، التي عقد مجلس إدارتها أول اجتماع له في يوليو الفائت، في خطوة تستهدف توفير إطار مؤسسي لدعم التبادل التجاري والاستثماري، كذلك تم توقيع حزمة من الاتفاقيات القانونية اللازمة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بما في ذلك اتفاقية التجارة الحرة، واتفاقية منع الازدواج الضريبي، واتفاقية ثنائية لتشجيع وحماية الاستثمارات. ومن ثم، فإن أي تصعيد سياسي أو عدم استقرار داخلي في فنزويلا من شأنه أن يقوض رهانات أنقرة على تعميق حضورها الاقتصادي في البلاد.


.jpg)

.png)

.jpeg)


.jpg)



