برلين ترفع الإنفاق.. وبروكسل ترتبك من عودة العملاق الألماني
تشهد العواصم الأوروبية حالة من القلق تجاه الخطوة غير المسبوقة التي اتخذتها الحكومة الألمانية بزيادة إنفاقها العام بقيمة تُقدّر بنحو 178 مليار يورو، وهي أكبر زيادة مالية منذ الحرب العالمية الثانية، ما يثير تساؤلات عميقة حول تداعيات هذه السياسة على مستقبل الاتحاد الأوروبي واستقراره الاقتصادي والأمني.
في تصريحات خاصة لـ«جريدة النهار»، قال الباحث السياسي نزار نزال إن دوافع هذه الخطوة تتوزع بين ظروف داخلية ملحّة وضغوط خارجية متصاعدة، ما يجعل المشهد أكثر تعقيدًا مما يبدو في الظاهر.
أولًا: الأسباب الداخلية
وأوضح نزال أن الاقتصاد الألماني يمرّ بحالة ركود هي الأسوأ منذ ما يقارب عشر سنوات، مع تراجع واضح في الإنتاج، وضعف في الطلب، وتقلّص كبير في الصادرات.
وفي محاولة لاستعادة النمو، تتجه الحكومة الألمانية إلى زيادة الاستثمار العام في البنية التحتية والطاقة والقطاعات الإنتاجية الحيوية.
وأضاف أن أزمة الطاقة التي ضربت أوروبا في عام 2022 ما زالت تلقي بظلالها على برلين، التي تسعى اليوم إلى إيجاد بدائل دائمة للغاز الروسي، وتستثمر الحكومة مليارات اليوروهات في بناء محطات للغاز المسال، وتوسيع شبكات الكهرباء، ودعم إنتاج الطاقة المتجددة.
وأشار الباحث إلى أن ألمانيا كانت تعتمد لعقود على سياسة مالية صارمة تقوم على الانضباط وتجنّب العجز، وهو ما أدى إلى تدهور البنية التحتية وتأجيل مشروعات التحديث. وحسب نزال، ترى الحكومة الحالية أن الوقت حان لإنفاق «مبالغ هائلة» على إعادة بناء شبكات الطرق والطاقة والاتصالات.
ثانيًا: الأسباب الخارجية
وأوضح نزال أن الدوافع الخارجية أكثر حساسية بالنسبة لبقية الدول الأوروبية. فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تبنّت ألمانيا ما وصفته بـ«التحوّل الاستراتيجي»، والذي يتضمن رفع الإنفاق العسكري ليصل إلى 2% من الناتج القومي بل وتجاوز هذه النسبة استجابة لضغوط أمريكية وناتو متواصلة.
ويشير نزال إلى أن رفع ميزانيات الجيش ودعم أوكرانيا وتحديث القدرات الدفاعية يُقرأ أوروبيًا بطريقتين: الأولى باعتبار ألمانيا تسعى لسدّ «فراغ أمني» داخل أوروبا، والثانية باعتبارها «رضوخًا لرغبة أمريكية» في دفع أوروبا لتحمل مسؤوليات دفاعية أكبر.
إلى جانب ذلك، تخشى برلين من فقدان صناعاتها لصالح الولايات المتحدة بعد قانون خفض التضخم الأمريكي، ولصالح الصين التي تملك قدرة إنتاج منخفضة التكلفة. ولهذا ضخت ألمانيا تمويلات ضخمة لدعم قطاعات التكنولوجيا والصناعة المتقدمة مثل:
صناعة البطاريات
السيارات الكهربائية
الهيدروجين الأخضر
أشباه الموصلات
لماذا يقلق الأوروبيون من هذه الخطوة؟
يرى نزال أن زيادة الإنفاق الألماني بهذا الحجم تثير مخاوف حقيقية داخل أوروبا، أبرزها:
الخوف من عودة ألمانيا كقوة اقتصادية وعسكرية ضخمة، بما قد يؤثر على توازنات الاتحاد الأوروبي.
القلق من اتساع الفجوة الاقتصادية بين ألمانيا وبقية الدول الأوروبية الأضعف اقتصاديًا.
مخاطر تمويل هذا الإنفاق عبر الديون بما قد يهدد قواعد الانضباط المالي الأوروبي.
مخاوف فرنسية خاصة من أن تتحول ألمانيا إلى لاعب عسكري مستقل داخل القارة.
ضغوط أمريكية وأوروبية متزايدة
يشير الباحث إلى أن واشنطن منذ بداية حرب أوكرانيا تضغط على الدول الأوروبية، وعلى ألمانيا خصوصًا، للالتزام بإنفاق دفاعي يعادل 2% من الناتج المحلي على الأقل. ولأن برلين كانت تاريخيًا أقل من هذا المستوى، تعرضت لانتقادات أمريكية متواصلة، ما دفعها إلى رفع ميزانيتها العسكرية وتطوير قدراتها الدفاعية.
إلى جانب ذلك، هناك التزامات أوروبية متشعبة تتعرض لها ألمانيا، منها:
قيادة التحول الأخضر وتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية
الاستثمار في مشروعات صناعية ودفاعية مشتركة داخل الاتحاد الأوروبي
تحمل نصيب أكبر من تكلفة تسليح شرق أوروبا ودعم أوكرانيا
ويضيف نزال أن القلق الأوروبي لا يتمثل في قوة ألمانيا بحد ذاتها، بل في احتمال أن تتحرك بصورة منفردة خارج إطار التنسيق الأوروبي. فالدول الأوروبية تريد ألمانيا قوية، ولكن «تحت مظلة الاتحاد»، لا كلاعب مستقل.


.jpg)

.png)



.jpg)



