هل يكون الانسحاب الأمريكي من العراق حقيقيا أم مجرد إعادة تموضع؟

قررت الولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس 2025 سحب جميع قواتها من قاعدتي «عين الأسد» و«فكتوريا بالعراق»، وشرعت في نقلهم بعتادهم العسكري إلى مدينة أربيل في إقليم كردستان، وإلى بعض الدول العربية المجاورة، وأبلغت واشنطن المسئولين العراقيين بنيتها عدم الالتزام بالجدول الزمني المتفق عليه مع بغداد، مع رغبتها في تسريع عملية الانسحاب قبل الموعد المحدد في الاتفاق الموقع بين الجانبين في 2024، والذي تضمن بقاء القوات في إقليم كردستان لمدة عام على أن يكتمل الانسحاب الكلي في سبتمبر 2026.
وبالتزامن مع تلك التطورات تصاعدت المخاوف بشأن تداعيات الانسحاب الأمريكي على الوضع الأمني في العراق، خصوصًا فيما يتعلق باحتمالية استغلال تنظيم داعش الإرهابي للفراغ الذي قد يخلفه الانسحاب في استعادة نشاطه داخل البلاد، ذلك الأمر الذي وضحته منى قشطة، الباحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في دراسة مفصلة تحمل عنوان «محددات حاكمة: تداعيات الانسحاب الأمريكي من العراق على نشاط تنظيم داعش» نُشرت على الموقع الإلكتروني للمركز، بشكل أكثر تفصيلاً، مؤكدة على وجود جدل دائر في هذا الإطار؛ إذ يرى فريق أن الانسحاب سيخلق فراغا أمنيا يمنح التنظيم فرصة لإعادة التموضع، لا سيما في ظل تصاعد التوترات الإقليمية المرتبطة بالحرب في غزة عمومًا، وبتداعيات المواجهة بين إيران وإسرائيل على الساحة العراقية خصوصاً.
في المقابل يؤكد مسئولون عراقيون أن التنظيم لم يعد يشكل تهديدًا فعليا، بعدما نجحت القوات الأمنية العراقية بالتعاون مع قوات التحالف، في استهداف أوكاره خلال الأعوام الماضية، وهو ما أدى إلى تراجع نشاطه العملياتي وفقدانه جانبًا كبيرًا من قدراته العسكرية، بحسب تحليل «قشطة».
أجاب تحليل منى قشطة، على عدد من الأسئلة المُهمة وهي «هل جاء القرار بشكل مفاجئ؟ وهل يعد انسحابا حقيقيا أم مجرد إعادة تموضع؟ وهل تعني هذه الخطوة أن الولايات المتحدة بصدد الخروج النهائي من العراق؟»، مؤكدة أنه لا يمكن النظر إلى التحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة، والمتمثلة في الشروع في سحب قواتها من قاعدتي عين الأسد وفكتوريا إلى إقليم كردستان العراق، باعتبارها خطوة مفاجئة على النحو الذي يتم الحديث عنه في الأوساط الإعلامية المختلفة، وذلك لأنها تعد امتدادًا لمسار تفاوضي بدأ منذ عام 2021 وتوج باتفاق أبرم بين بغداد وواشنطن في عام 2024.
بحسب «قشطة» نص الاتفاق على إنهاء مهام التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وتحويله إلى إطار شراكة يقتصر على التدريب وتبادل المعلومات، وبموجب هذا الاتفاق، جرى وضع جدول زمني لعملية الانسحاب على مرحلتين الأولى: تقضي بإخلاء قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار بحلول سبتمبر عام 2025، والثانية: تتضمن استكمال الانسحاب من قاعدة حرير في إقليم كردستان في الشهر نفسه من عام 2026، غير أن توصيف هذه التحركات باعتبارها مفاجئة يمكن إرجاعه إلى عاملين رئيسيين: أولهما أنها نفذت قبل الموعد المتفق عليه بين الجانبين والمحدد في 15 سبتمبر 2025. وثانيهما: أنها جاءت في أعقاب تداول معلومات خلال الأشهر الماضية رجحت احتمال تأجيل الانسحاب بسبب اعتبارات أمنية إقليمية لا سیما تصاعد المواجهات بين إسرائيل وإيران.
أكدت منى قشطة، أن التحركات العسكرية الأخيرة للقوات الأمريكية في العراق تشير إلى أنها لا تمثل انسحابا كاملا بقدر ما تعكس عملية إعادة تموضع داخل البلاد فالانتقال الأمريكي من قاعدتي عين الأسد وفكتوريا، إلى إقليم كردستان لا يعني مغادرة العراق، وإنما إعادة توزيع للوجود العسكري وفقا لحسابات استراتيجية جديدة تهدف إلى الحفاظ على نفوذ واشنطن في المنطقة من ناحية، مع الحد من المخاطر المباشرة وتخفيف الحساسية السياسية المرتبطة بالوجود العسكري الأمريكي في العراق من ناحية أخرى.
وتتضح أهمية هذا التموضع في الوقت الراهن، وفق «قشطة» في كونه يحقق لواشنطن جملة من الأهداف: أهمها تقليل المخاطر الأمنية عبر إبعاد قواتها عن المناطق التي تتعرض لهجمات متكررة من الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، بما يقلل من احتمالية سقوط خسائر بشرية قد تدخلها في مواجهة سياسية معقدة مع بغداد، كما يمنع في الوقت نفسه طهران من تحقيق مكاسب رمزية وإعلامية عبر استهداف المواقع الأمريكية في بغداد أو الأنبار، وهو ما كانت تستخدمه لتعزيز خطاب ما يعرف بـ «محور المقاومة».
فضلاً عن أن تمركز القوات الأمريكية في أربيل يوفر ميزات استراتيجية مهمة إذ تمنح غطاء سياسيا من حكومة إقليم كردستان وقوات البيشمركة، الحليف الموثوق للولايات المتحدة، وتتيح موقعا جغرافيا لواشنطن يمكنها من مراقبة المثلث الحدودي مع إيران وسوريا وتركيا وضمان قنوات اتصال سريعة مع الحلفاء ناهيك عن أن نقل جزء من القوات الأمريكية إلى دول عربية مجاورة، يوفر لها مرونة لوجستية وسرعة حركة في حال تصاعدت التوترات الإقليمية خصوصا مع إيران، وفق تحليل منة قشطة.
واستكمالاً للإجابات على الأسئلة المطروحة، أكدت منى قشطة، أنه لطالما ارتبط أي إعلان أمريكي عن الانسحاب من العراق بجدل واسع حول ما إذا كان ذلك يعني نهاية الحضور الأمريكي بالفعل، أم أنه مجرد مناورة سياسية تهدف إلى امتصاص ضغوط الفصائل الشيعية الموالية لإيران التي تطالب الحكومة العراقية، برئاسة محمد شياع السوداني، بإخراج القوات الأمريكية، غير أنه ثمة جملة من المؤشرات تظهر أن سيناريو الانسحاب الكامل يظل مستبعدا على الأقل في المديين القصير والمتوسط ومن المرجح ألا يكون انسحابا بالمعنى الحرفي، وإنما في شكل إعادة انتشار أو تعريف المهام القوات بصبغ أمنية جديدة تركز على الأدوار الاستشارية والتدريبية بدلا عن الانتشار العسكري التقليدي.
ويتمثل أول هذه المؤشرات في البعد الردعي للوجود الأمريكي إذ لا ينحصر دور القوات الأمريكية في مساعدة العراق على محاربة فلول تنظيم داعش، كما هو معلن في أهداف التحالف الدولي ضد التنظيم، بل يتجاوز ذلك إلى مساعي واشنطن لردع الخصوم الإقليميين والدوليين وحماية مصالحها الاستراتيجية.
بحسب منى قشطة، يمثل العراق بالنسبة للولايات المتحدة ساحة محورية لمواجهة نفوذ إيران وقطع خطوط تواصلها مع المليشيات المنتشرة في المنطقة، ويشكل أيضا نقطة مهمة في منافستها الجيوسياسية مع الصين وروسيا، وتزداد أهمية هذا الدور في ظل احتمالات تجدد المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل، واحتمالية استخدام طهران للعراق كساحة للمواجهة ضد تل أبيب، وهو ما يجعل الانسحاب الأمريكي الكامل خيارا غير واقعيا في المرحلة الراهنة، حتى وإن كانت إدارة ترامب تتبنى توجها مؤيدا لتقليل الوجود العسكري الأمريكي خارج البلاد.
فيما يرتبط المؤشر الثاني بعودة منطقة الشرق الأوسط إلى صدارة أولويات السياسة الأمريكية. حيث بينت الحرب في غزة هشاشة الرهانات الأمريكية السابقة التي انطلقت من إمكانية تقليص الحضور في الشرق الأوسط لصالح التوجه نحو أسيا لاحتواء التحديات الصاعدة من الصين وروسيا. وقد فرض هذا التطور على واشنطن إعادة ترسيخ وجودها الإقليمي بوصفه ضرورة لحماية مصالحها وضمان أمن قواتها ومنشآتها الحيوية في مواجهة الاعتداءات المستمرة من قبل المليشيات المدعومة من إيران.
في حين يرتبط المؤشر الثالث بغياب التوافق بين المكونات السياسية في العراق حول مسألة الانسحاب؛ فقي حين تدفع القوى الشيعية باتجاه إنهاء مهام التحالف الدولي، ترفض المكونات السنية والكردية هذا التوجه وتصر على بقاء القوات الأمريكية لتحقيق التوازن الداخلي مع حكومة بغداد من ناحية، وضمانة أمن إقليم كردستان في مواجهة الضغط التركي والإيراني من ناحية أخرى. وعليه، يتبين من تلك المؤشرات، أن الولايات المتحدة لا تعتزم مغادرة العراق كليا، بل تحاول إعادة صياغة وجودها العسكري بشكل يوازن بين ضغوط الداخل العراقي ومصالحها الاستراتيجية الأوسع في منطقة الشرق الأوسط، وفق «قشطة».