النهار
جريدة النهار المصرية

تقارير ومتابعات

مقام سيدي لوبون.. حين يعيد المصري اكتشاف نفسه

الباحث إسلام أبو بكر
كريم عزيز -

قال إسلام أبو بكر، الباحث في علم الاجتماع السياسي، إنه في لحظةٍ من التاريخ لا تُنسى، كانت السجائر تُطفأ على الأرصفة بعد أن امتلأ الميدان بأقدامٍ أنهكها الهتاف والتنظيف معًا. مشهدٌ يختصر مصر في لقطة واحدة: نفس الأيدي التي أمسكت اللافتات طوال النهار، حملت في المساء مكانس وعبوات مياه، تغسل الحجارة التي شهدت الهتاف. كأن المصريين أرادوا أن يُطهّروا المكان من أثر الغضب، لا لأنهم ندموا، بل لأنهم — ببساطةٍ إنسانيةٍ لا تُفهم إلا في مصر — يخشون أن تبيت الأماكن حزينة.

وأضاف في تحليل له، منذ ذلك المساء، لم تعد فلسفة التعامل مع الأمكنة كما كانت، ولا الناس كما كانوا. تغيّرت الوجوه والنبرات والعلاقات. كأن يدًا خفية في الوعي الجمعي ضغطت زرًّا، فانتقلنا من “نحن” إلى “أنا”، ومن الفعل الجماعي إلى نجاةٍ فرديةٍ محمومة. لكن السؤال الأعمق يظل قائمًا: هل تغيّر المصريون فعلًا؟ أم أن ما تبدّل هو المزاج النفسي والاجتماعي الذي تحكمه قوانين لا تقل صرامة عن قوانين الفيزياء؟

وذكر أن كل ثورة — كما يقول علماء النفس الاجتماعي — تخلق موجةً من الإشباع الرمزي، يظن الناس معها أنهم أمسكوا بمصيرهم بأيديهم، قبل أن تبدأ الموجة في الانحسار. وفي لحظة الانكسار تلك، يتبدّى الفارق بين الشعوب التي تحوّل التجربة إلى وعي (transformative awareness) وتلك التي تعيشها كعاطفةٍ كبرى ثم تنساها.

في عقدٍ واحد، عاش المصريون ما يعادل قرنًا من التحولات النفسية والسلوكية. من التفاؤل الجماعي إلى السخرية المبطّنة، من التمرد إلى اللامبالاة، من الهتاف إلى “الميم”. تغيّر كل شيء، إلا تلك الحاجة القديمة للانتماء. إنها سيكولوجيا الفعل الجمعي كما يسميها علماء الاجتماع، حيث يصبح الشارع مختبرًا للمشاعر أكثر منه ساحةً للسياسة، وفق «إسلام».

ولأن ما هو شعبيّ يفضح نفسه في اللغة، تحولت السخرية إلى فعلٍ حضاريّ بديل. فالنكتة لم تعد تفريغًا، بل آلية دفاع ضد العجز. والتحايل لم يعد نقيضًا للأخلاق، بل مهارة بقاء في واقعٍ مربك. في هذا الخليط تتجلّى العبقرية المصرية الغامضة: مزيج من البهجة والحذر، من الشكّ والإيمان، من الاستسلام والدهاء، بحسب الباحث.

وهنا تكتسب الأرقام معناها. فبحسب استطلاع Gallup العالمي لعام 2025، جاءت مصر ضمن أعلى الدول التي ترى الأمل مطلبًا حياتيًا أساسيًا، إذ عبّر نحو 72% من المصريين عن إيمانهم بأن المستقبل يمكن أن يكون أفضل رغم التحديات. لكن المفارقة أن نسبة القلق الوجودي ارتفعت في الوقت نفسه، ما يعني أن المصري يعيش بين قطبين متنافرين: تفاؤل غريزي وتشاؤم معرفي. إنه لا يكفّ عن الحلم، لكنه أيضًا لا يثق في الطريق، وفق الباحث.

أما تقرير السعادة العالمي لعام 2025 — الصادر عن الأمم المتحدة بالتعاون مع جامعة أكسفورد ومؤسسة Gallup — فيكشف أن المصريين لا يقيسون سعادتهم بالمال، بل بالعلاقات الإنسانية والقدرة على التكيّف (resilience). ورغم أن ترتيب مصر في المؤشر العام لم يكن في الصدارة، إلا أنها تقدّمت في محور التعاطف والثقة الاجتماعية مقارنة بالسنوات السابقة. بمعنى آخر: لم يعد المصري يبحث عن “الرضا” بقدر ما يبحث عن “المعنى” (meaning).

هذه المعادلة النفسية — بين الأمل واللايقين — هي ما يجعل فهم المصريين مهمةً أعقد من مجرد تحليل سياسي. فهم، ببساطة، شعب لا يُقاس بمؤشرات الاقتصاد وحدها، بل بقدرته الأسطورية على التكيّف وإعادة التمثّل (re-symbolization). ولعل الوقت قد حان لانتقال السيادة الفكرية بشكلٍ ديمقراطيّ سلس من مُتخصصي الاقتصاد والسياسة إلى علماء النفس والاجتماع، لتشريح تأثير التغييرات والتنبؤ بالمآلات. فالقضية لم تعد: “ماذا حدث؟” بل “كيف أثّر الحدث فينا؟” — وهذا السؤال وحده يفتح باب الفهم الحقيقي للمجتمع.

ولهذا، نفهم أن المصريين، حين تضيق بهم الأرض، لا ينهزمون بل يخلقون لأنفسهم مساحة رمزية من الأمل والسخرية، هي ما يسميه علماء النفس آلية الصمود الجمعي. وربما لذلك لا تموت الأحلام في مصر، بل تغيّر شكلها فقط. فالثورات تتحول إلى نكات، والنكات إلى شعارات، والشعارات إلى حِكمٍ شعبية تُقال على المقاهي، فتُعيد إنتاج الوعي الشعبي في صورةٍ جديدة. إنها دائرة لا تنكسر.

من ذلك، يظهر اسم «لوبون» غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) — عالم النفس والاجتماع الفرنسي (1841–1931) — كتب أشهر مؤلفاته «سيكولوجية الجماهير» في نهاية القرن التاسع عشر، حين كان العالم مهووسًا بفهم سرّ الحشود (mass

psychology)، لكنه بخلاف ما يُشاع، لم يكن يحتقر الجماهير؛ بل كان مفتونًا بها. رآها كائنًا حيًا غامضًا، يتحرك بإيمانٍ عميق لا يخضع للمنطق، لكنه يحمل طاقة التغيير الأخطر في التاريخ.

ولو عاش لوبون في مصر بعد ثورتي يناير ويونيو، لرأى بعينيه ما لم تلتقطه نظرياته: كيف يمكن لجماعةٍ واحدة أن تجمع بين القداسة والسخرية، بين الصبر والتمرّد، بين التديّن الشعبي والوعي الحداثي في الوقت نفسه.

وربما لقال: "هؤلاء لا ينطبق عليهم قانون الجماهير، لأن لكلٍّ منهم داخله جماعة صغيرة من الأصوات والذكريات."

إذ يواجه المصري المعاصر تحديات جديدة: عالم رقمي مفتوح، تدفق للمعلومات، تصدّع في المفاهيم التقليدية عن السعادة والنجاح. في هذا السياق، يصبح السؤال الحقيقي: هل يمكن أن يتحول «مقام لوبون» — لا كشخص، بل كمرآة فكرية — إلى وعي نقدي هادئ (reflective awareness)، قادر على فهم الذات بلا جلدٍ ولا تمجيد؟

فالمقام، في الثقافة الشعبية، هو مكان «الحضور» — حضور الولي أو الذاكرة أو الرجاء — وهكذا يمكننا أن نرى في دراسة النفس المصرية نوعًا من الزيارة المستمرة لمقامٍ روحي-اجتماعي، لا يُقصَد بالضرورة أن يُزار، بل أن يُكتشف فينا.

في المحصلة، يتكوّن «مقام سيدي لوبون» — لا كضريحٍ في القاهرة القديمة، بل كمقامٍ رمزيٍّ يقف عليه المصري ليوازن بين العقل والعاطفة، بين الثورة والتسامح، بين الحلم والواقع.

هو مقام لا يُزار، بل يُكتشف.