مفتي الجمهورية خلال ندوة تجديد الخطاب الديني ووعي الشباب يؤكد: التعارض بين العلم والدين وهم

أكد فضيلة أ.د. نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن الحديث عن تجديد الخطاب الديني وبناء الوعي ليس من نافلة القول، بل هو ضرورة حياتية في ظل ما يشهده العصر من أزمات فكرية وقيمية وتناقضات متعددة، موضحًا أن التجديد لا يعني التنصل من الدين أو الخروج على الثوابت، كما لا يعني الجمود والوقوف عند ظاهر النصوص، وإنما يقوم على الفهم الرشيد والقراءة الواعية التي تجمع بين الثابت والمتغير.
وأشار فضيلته، إلى أن بعض المشكلات التي تواجه الخطاب الديني اليوم ترجع إلى تصدي غير المتخصصين لشؤون الدين دون دراية أو تأهيل علمي، مما يؤدي إلى تشويه المفاهيم وإثارة اللبس في أذهان الناس، مؤكدًا أن الخطاب الديني الرشيد هو الذي يصل إلى الناس جميعًا بأدوات العصر، ويعبر عن روح الدين ومقاصده دون أن يهدم أصلًا من أصوله أو ركنًا من أركانه، مضيفًا أن العلاقة بين العلم والدين علاقة تكامل لا تعارض، فكل منهما له مجاله ووظيفته، وإذا طغى أحدهما على الآخر وقع الخلل، أما في حال التعاون والتكامل فإن كليهما يسهم في بناء الإنسان والحياة. واستشهد فضيلته بقول الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» [فصلت: 53].
وأوضح فضيلته، أن ما يُظن من تعارض بين الدين والعلم ينشأ عن سوء الفهم أو القراءة الخاطئة للنصوص، فالإشكالية لا تكمن في الدين ذاته، بل في طريقة التعامل معه أو تفسيره خارج سياقه الصحيح، موضحًا أن النصوص الشرعية تحتكم إلى الفهم المستنير الذي يوازن بين النص والعقل ويستحضر مقاصد الشريعة ومصالح الإنسان.
وحذر فضيلة المفتي، من بعض الممارسات غير الأخلاقية التي تُروّج تحت دعاوى الحرية وما يصاحبها من خطابات الإلحاد والشذوذ الفكري والسلوكي، مؤكدًا أن مثل هذه الممارسات تمثل خطرًا على الأمن القومي والفكري، داعيًا من أراد التعلم الصحيح فعليه الرجوع إلى أهل الاختصاص الذين يمتلكون أدوات الفهم والتأصيل، موضحًا أن الدين في أول آياته دعا إلى العلم، كما قال تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» [العلق: 1]، وأن هذا العلم يشمل مختلف المجالات وليس علم الدين وحده، لقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» [الزمر: 9].
وأشار فضيلته إلى أن المعرفة في الإسلام تقوم على الجمع بين الوحي السطور والوحي المنظور الذي هو الكون وما فيه ، ومن ثم يمكن الاستفادة من معطيات العلم الحديث والفضاء الرقمي لخدمة الدين وفق آليات صحيحة تضمن الدقة والموضوعية وتمنع التحيز، موضحًا أن بعض القضايا المستجدة في العلوم الطبية والاجتماعية تتطلب من المفتي الاستعانة بآراء المتخصصين للوصول إلى الحكم الشرعي المنضبط، مشيرًا إلى أن من أبرز المشكلات التي تواجه الخطاب الديني المعاصر تصدي غير المؤهلين للحديث في شؤون الدين، مما يؤدي إلى الفهم القاصر لقضايا المرأة والميراث والحرية وتعدد الزوجات.
وبيّن فضيلته أن من أبرز التحديات التي تواجه عملية تجديد الخطاب الديني تحديد طبيعة العلاقة بين الدين والعلم وأيهما الحاكم والمحكوم، موضحًا أن الدين هو الإطار القيمي والأخلاقي الذي يوجّه مسار العلم ويضبط استخدامه، في حين يبقى العلم وسيلة لفهم سنن الله في الكون وتسخيرها لخدمة الإنسان وتنمية الحياة. وأكد أن هذا التوازن يقوم على ثلاث دوائر متكاملة تحكم العلاقة بين الدين والعلم، هي دائرة الاختصاص التي تقتضي أن يتحدث كل صاحب علم في مجاله دون تجاوز، وأن يُترك أمر الفتوى والاجتهاد لأهله من العلماء المؤهلين، ودائرة التعاون بين العقل والدين التي تؤكد أن العقل يعمل في ضوء الهداية الإلهية لفهم النصوص واستنباط المقاصد دون أن يتجاوز حدود الوحي أو يفسره بمعزل عن مقاصده، ثم دائرة الحاكمية والمحكومية بين العلم والدين وأن الدين يظل المرجعية العليا التي تضبط مسار العلوم والمعارف بمنظومة من القيم والمبادئ والأخلاق، ليبقى التعاون بين الدين والعلم تعاونًا تكامليًا يحقق مصلحة الإنسان ويصون الحضارة من الانحراف أو الإفراط، محذرًا من الانسياق وراء القراءات الحرة للنصوص الشرعية أو إخضاعها لمناهج النقد الحداثي التي تبتعد عن مقاصد الدين، مبينًا أن التجديد الحقيقي يقوم على إيضاح يسر الدين ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان، مع تحقيق التوازن بين الثوابت والمتغيرات وبين حقوق الله وحقوق الناس، داعيًا الشباب إلى أن يكونوا دعاة خير وسلام يتمتعون بوعي فكري وبصيرة في فهم العلاقة بين العلم والدين والعمران الإنساني، محذرًا من الاجتزاء الفكري وانتقاء الأفكار من غير سياقها لما في ذلك من خطر على الوعي والفهم الصحيح للواقع.
وأكد فضيلته أن بعض من يتحدّون وجود الخالق غاب عنهم إدراك حدود العقل البشري الذي يقف عاجزًا أمام الغيب، مستشهدًا بقوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» [الإسراء: 85]، موضحًا أن الخلق منه ما يكون على مثال سابق ومنه ما يكون على غير مثال سابق، أي الإيجاد من العدم، مما يكشف عن عجز الإنسان وطغيانه حين يظن أنه قادر على الإحاطة بأسرار الوجود، داعيًا إلى قراءة علمية واعية للنصوص الدينية بعيدًا عن التطرف أو الجمود حتى يتحقق التجديد المنشود الذي يخدم الدين والإنسان معًا.
واختتم مفتي الجمهورية كلمته بالتأكيد على أن الفهم الصحيح لطبيعة العلاقة بين العلم والدين يسهم في تجاوز مظاهر الانغلاق والتشدد والانفلات الفكري، مبينًا أن الدين يعنى بالعلاقة بين الخالق والمخلوق، بينما يهتم العلم بظواهر الكون والحياة من طب وهندسة وفلك وغيرها، وكلاهما يستأنس بالآخر لتحقيق التوازن والارتقاء الإنساني.
جاء ذلك خلال كلمة فضيلته في ندوة «تجديد الخطاب الديني وبناء الوعي لدى الشباب» التي نظمتها جامعة طنطا، بحضور الأستاذ الدكتور محمد حسين محمود رئيس الجامعة، والأستاذ الدكتور محمود سليم نائب رئيس الجامعة لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة، والأستاذ الدكتور حاتم أمين نائب رئيس الجامعة للدراسات العليا والبحوث، والسادة عمداء ووكلاء الكليات وأعضاء هيئة التدريس والعاملين، إلى جانب جمع كبير من طلاب الجامعة الذين شاركوا في اللقاء في أجواء من الحفاوة والتفاعل الإيجابي مع ما طرحه فضيلته من رؤى فكرية وعلمية مستنيرة حول قضايا التجديد وبناء الوعي الرشيد.
من جانبه أعرب الأستاذ الدكتور محمد حسين رئيس جامعة طنطا عن سعادته البالغة بحضور فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عياد مفتي الجمهورية ومشاركته في توضيح المفاهيم وتصحيح التصورات لدى الشباب، مؤكدًا أهمية تعاون المؤسسات العلمية والتربوية مع المؤسسات الدينية في بناء الوعي الوطني والفكري، ومواجهة مظاهر الانغلاق أو الانفلات الفكري، مشيرًا إلى أن حضور فضيلته يمثل إضافة علمية وثقافية تثري الفكر الجامعي وترسخ قيم الوسطية والاعتدال بين الطلاب.
وفي لفتة تقدير قام الأستاذ الدكتور محمد حسين رئيس جامعة طنطا بتقديم درع الجامعة لفضيلة المفتي، تقديرًا لجهوده البارزة في رفع مستوى الوعي لدى الشباب ونشر الفكر الوسطي المستنير، وإسهاماته العلمية والدعوية في ترسيخ قيم الانتماء والمسؤولية وتعزيز التواصل بين المؤسسات الدينية والعلمية بما يخدم الوطن ويصون هويته.

