النهار
الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 08:53 مـ 6 جمادى أول 1447 هـ
جريدة النهار المصرية رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرأسامة شرشر
التموين: استمرار ثبات سعر رغيف الخبز المدعم عند 20 قرشًا رغم زيادة أسعار السولار الحمصاني: افتتاح المتحف المصري الكبير يعكس عظمة الحضارة المصرية واهتمامًا عالميًا غير مسبوق اليوم.. زينة تنتهي من تصوير ورد وشوكولاته من وراء حرب المسيرات وتمويل المرتزقة الاجانب في السودان ؟ خبراء: مصر والسعودية الأقدر على حل الأزمة السودانية ونسف مخطط التقسيم تحت شعار”الاصطفاف خلف الدولة ومواجهة التحديات الراهنة ”: غدا …مؤسسة المصريين لدعم مؤسسات الدولة تنظم احتفالية بالقاهرة بمناسبة ذكرى انتصارات اكتوبر... قبل أيام قليلة من الإفتتاح.. خبراء: المتحف المصري الكبير سيكون أكبر حدث ثقافي عالمي.. ومشروع القرن الحادي العشرين كيف كبّل ترامب يد نتنياهو لإنهاء الحرب في غزة ؟ محمد فريد :الذكاء الاصطناعي أصبح ضرورة وليس خيارً يجب على الجهات الرقابية تبنيه السيسي يعتمد مبادرة ”مصر معاكم” لتقديم الرعاية الشاملة لأبناء الشهداء والمصابين ما هو مستقبل السودان بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر ؟ السيسي يوجّه بتوفير إعفاءات وتخفيضات لأبناء الشهداء في الجامعات والمعاهد الخاصة بالصور..أبوظبي تستضيف لأول مرة مهرجان الموسيقى العربية الـ33 بمشاركة نجوم الطرب العربي

عربي ودولي

روسيا تبني إمبراطوريتها الجديدة في القارة السمراء.. نفوذ يتجدد بوجهٍ عسكري قديم

روسيا والقارة السمراء
روسيا والقارة السمراء

في مشهد يُعيد رسم خريطة النفوذ العالمي، تتحرك روسيا بخطى ثابتة نحو إعادة تموضعها في القارة الإفريقية بعد سقوط مجموعة “فاغنر”، التي كانت لسنوات الذراع غير الرسمي للكرملين هناك. فبعد مقتل زعيمها يفغيني بريغوجين عام 2023 وتفكك المجموعة، بدا أن موسكو فقدت أداة نفوذها الخفي في القارة، لكن سرعان ما تحولت الفوضى إلى فرصة لإعادة البناء بشكل أكثر تنظيمًا وشرعية. ومنذ عام 2024، تشهد القارة الإفريقية تحولًا استراتيجيًا في خريطة النفوذ الدولي، مع عودة روسيا بقوة إلى الساحة بعد انهيار فاغنر ومقتل زعيمها في حادث غامض هزّ موسكو والعالم. واليوم، لم تعد روسيا تعتمد على فاغنر كقوة شبه مستقلة، بل دخلت مرحلة جديدة من التمدد الرسمي والمنظم تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية وشركات أمنية جديدة تمثل “النسخة الشرعية” من نفوذها في القارة الإفريقية.

من فاغنر إلى "فيلق إفريقيا".. ولادة الذراع الجديدة لموسكو..التمدد الروسي بثوب رسمي

منذ مطلع عام 2024، بدأت موسكو في إعادة هيكلة وجودها داخل إفريقيا عبر وزارة الدفاع الروسية وشركات أمنية جديدة تابعة للدولة مباشرة، بدلًا من الاعتماد على الميليشيات شبه المستقلة.
وفي هذا السياق، أنشأت روسيا كيانًا جديدًا يعمل تحت مظلة وزارة الدفاع الروسية يحمل اسم "فيلق إفريقيا"، الذي تولى مهام فاغنر السابقة في كل من مالي، النيجر، بوركينا فاسو، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وهي الدول التي شكّلت تاريخيًا قاعدة نفوذ فاغنر في منطقة الساحل.

ومع حلول أكتوبر 2025، تشير التقديرات إلى أن "فيلق إفريقيا" أصبح القوة العسكرية الأكثر تأثيرًا في الساحل الإفريقي بعد انسحاب القوات الفرنسية، مما جعل موسكو اللاعب الأبرز في الفراغ الأمني الذي خلّفه الغرب.

وتتمثل مهمة هذا الفيلق في تأمين الأنظمة الحليفة، تدريب الجيوش المحلية، وحماية المصالح الروسية

كما يقول خبراء إن هذا الفيلق هو أداة استراتيجية رسمية تهدف إلى إحكام قبضة روسيا على موارد إفريقيا من الذهب واليورانيوم والنفط والمعادن النادرة، وتحويلها إلى أوراق ضغط سياسية واقتصادية تستخدمها موسكو في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة.

تحوّل من النفوذ غير الرسمي إلى النفوذ المؤسسي

تسعى موسكو اليوم إلى تحويل نموذج فاغنر الفوضوي إلى نظام أكثر انضباطًا وتنسيقًا يخضع مباشرة لسلطة الدولة. فبدلًا من الاعتماد على تمويلات خفية وشبكات موازية، باتت التحركات الروسية في إفريقيا تمر عبر قنوات دبلوماسية رسمية.

ويؤكد المحلل السياسي الروسي ألكسندر فيودوروف أن الكرملين أدرك بعد سقوط فاغنر أن الوقت قد حان لـ"تأميم النفوذ"، موضحًا أن "موسكو لم تفقد إفريقيا، بل استعادت السيطرة عليها من أيدي المرتزقة"

ويضيف فيودوروف:"إفريقيا لم تعد مجرد ساحة نفوذ رمزية بالنسبة لروسيا، بل أصبحت جبهة اقتصادية واستراتيجية حيوية في مواجهة الغرب، تمامًا كما كانت خلال الحرب الباردة".

الذهب مقابل الأمن.. معادلة النفوذ الروسي الجديدة

وفقًا لتقارير غربية، فإن روسيا تسعى لتحويل حضورها في إفريقيا من مجرد وجود عسكري إلى نظام نفوذ اقتصادي وسياسي متكامل يشمل اتفاقيات أمنية واقتصادية مع الحكومات الإفريقية
ففي السودان، تسعى موسكو لتوقيع اتفاق لإنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر مقابل دعم أمني للنظام العسكري.
وفي مالي، يقدم فيلق إفريقيا دعمًا مباشرًا للجيش ضد الجماعات المسلحة، مقابل عقود تنقيب ضخمة عن الذهب.
أما في جمهورية إفريقيا الوسطى، فقد تحولت الشركات الروسية إلى فاعل اقتصادي رئيسي يسيطر على جزء كبير من تجارة الماس والذهب.

هذا الوجود المتصاعد يمنح موسكو أوراق ضغط قوية في مواجهة الغرب، إذ أصبحت إفريقيا بالنسبة لبوتين جبهة نفوذ بديلة لتعويض عزلة روسيا الدولية بعد الحرب في أوكرانيا.

الذهب واليورانيوم.. كنوز القارة في يد الكرملين

لم يكن الوجود الروسي في إفريقيا مجرد طموح عسكري، بل مشروعًا اقتصاديًا متكاملًا. فالشركات المرتبطة بوزارة الدفاع الروسية مثل "لوباي إنفست" و"سيفر إنيرجي" تنشط حاليًا في تعدين الذهب في السودان واستخراج اليورانيوم في النيجر، إضافة إلى عقود لاستغلال الموانئ والطرق التجارية في خليج غينيا والبحر الأحمر.

وتشير بيانات مراكز أبحاث أميركية إلى أن موسكو تعتمد على هذه الموارد لتعويض آثار العقوبات الغربية، وتحويل إفريقيا إلى مصدر بديل للعملات الصعبة والمواد الإستراتيجية.

انسحاب فرنسا.. هدية استراتيجية لموسكو لبداية "القرن الروسي الإفريقي"

شكّل انسحاب القوات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو عاملاً حاسمًا في تعزيز النفوذ الروسي.ففي الوقت الذي كانت فيه باريس تواجه رفضًا شعبيًا إفريقيًا واتهامات بالتدخل الاستعماري، استغلت موسكو اللحظة لتقدّم نفسها كـ"شريك بديل لا يتدخل في الشؤون الداخلية".

وبينما خسرت فرنسا قواعدها العسكرية التقليدية، أبرمت روسيا اتفاقات جديدة لتدريب الجيوش الإفريقية وتأمين القصور الرئاسية والمنشآت الاستراتيجية، في تكرار للنموذج الذي نجحت فاغنر سابقًا في تطبيقه في إفريقيا الوسطى.

ورحب الجنرالات الجدد في الساحل الإفريقي، الذين ضاقوا ذرعًا بالتدخل الغربي، بالدور الروسي باعتباره شريكًا لا يفرض شروطًا سياسية أو ديمقراطية، على عكس واشنطن وباريس.

ويؤكد تقرير صادر عن مركز "شاتهام هاوس" البريطاني أن روسيا باتت تمتلك الآن نفوذًا أمنيًا وسياسيًا يفوق أي قوة غربية أخرى في الساحل الإفريقي، وأن هذا النفوذ مرشح للتوسع أكثر في ظل الفتور الأوروبي والانشغال الأميركي بملف أوكرانيا والشرق الأوسط.

وفي هذا السياق قال الخبير الفرنسي في الشؤون الإفريقية، إيمانويل دوبوا، في تصريحات له، إن "روسيا اليوم تعيد بناء نموذج نفوذها في إفريقيا بطريقة أكثر ذكاءً مما فعل الاتحاد السوفييتي، فهي لا تعتمد على الأيديولوجيا، بل على المقايضة بين الموارد والحماية".
وأضاف أن :"موسكو نجحت في تقديم نفسها كقوة تحترم السيادة الإفريقية وتدعم الأنظمة القائمة بدلًا من إسقاطها، وهو ما يجعلها أكثر قبولًا في نظر قادة القارة".

قلق غربي متصاعد.. وعودة أجواء الحرب الباردة

التحركات الروسية في إفريقيا تثير قلقًا متزايدًا في واشنطن وباريس والاتحاد الأوروبي، حيث يرون في هذه العودة الروسية استنساخًا لنفوذ استعماري جديد بملامح عسكرية
فقد صرّح مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية مؤخرًا بأن: "روسيا لا تقدم حلولًا تنموية لإفريقيا، بل تستبدل النفوذ الغربي بنفوذ مسلح"، بينما وصف تقرير لوكالة بلومبرغ "فيلق إفريقيا" بأنه "فاغنر بزي رسمي وشعار الدولة الروسية".

أما واشنطن فترى أن انتشار فيلق إفريقيا قد يؤدي إلى تكرار نموذج سوريا، أي استخدام النفوذ العسكري الروسي لترسيخ أنظمة موالية ومنع التدخل الغربي.

وتؤكد تقارير أميركية أن روسيا تستغل حالة الفراغ الأمني في الساحل، والاضطرابات السياسية في السودان وليبيا، لتثبيت وجود طويل الأمد يضمن لها السيطرة على الممرات الاستراتيجية وموارد الطاقة والمعادن الثمينة.

في المقابل، ترد موسكو بأن وجودها في إفريقيا يهدف إلى تحقيق الاستقرار والتنمية وحماية السيادة الإفريقية من التدخلات الأجنبية، مؤكدة أن تعاونها مع دول الساحل قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

يرى محللون أن القارة الإفريقية اليوم تقف أمام مرحلة إعادة توزيع النفوذ الدولي، حيث تحاول روسيا والصين وتركيا ملء الفراغ الذي خلّفه تراجع الدور الغربي.
ويقول الخبير الإفريقي أداما توريه: "إن الفراغ لا يدوم طويلاً في إفريقيا، والروس فهموا المعادلة أسرع من الجميع" ويضيف:"روسيا لا تبحث عن السيطرة فقط، بل عن الشرعية، فهي تريد أن تكون لاعبًا مقبولًا في النظام الإفريقي الجديد، لا مجرد قوة ظل كما كانت فاغنر"

الخلاصة أن ما يجري في إفريقيا اليوم ليس مجرد تبدّل لأسماء الميليشيات أو إعادة توزيع القواعد العسكرية، بل بداية لمرحلة جديدة من التنافس الدولي تشبه إلى حد بعيد سباق النفوذ في القرن العشرين.
وربما تكون فاغنر قد انتهت، لكن فكرة النفوذ الروسي في إفريقيا لم تمت، بل استعادت قوتها تحت راية الدولة الروسية نفسها.

في النهاية، يبدو أن إفريقيا باتت تمثل محورًا رئيسيًا في رؤية فلاديمير بوتين لإعادة تشكيل النظام الدولي. فبينما يتصاعد الصراع في أوكرانيا وتزداد عزلة روسيا في الغرب، يفتح الجنوب العالمي أمام موسكو بابًا جديدًا لتوسيع نفوذها، وإعادة تقديم نفسها كقوة بديلة عن الهيمنة الغربية.

ومع توسّع "فيلق إفريقيا" وعودة الشركات الروسية إلى قلب القارة، يرى محللون أن العالم يقف أمام بداية مرحلة جديدة من "القرن الروسي الإفريقي" حيث لا تُدار المعارك بالمدافع فقط، بل بالذهب، والعقود، وشبكات النفوذ السياسي والاقتصادي التي تمتد من موسكو إلى قلب الصحراء الكبرى.

موضوعات متعلقة