جريدة النهار المصرية

رئيس التحرير

أسامة شرشر يكتب: ذكرى ثورة عبدالناصر

الكاتب الصحفي أسامة شرشر- رئيس تحرير جريدة النهار
-

مرت سبعون عامًا على ذكرى ثورة 23 يوليو، وكأنها بالأمس القريب.

والمثير للدهشة وللعجب أن عبدالناصر ما زالت ذكراه فى الشارع المصرى والعربى والإفريقى حية، وقد لفت نظرى ما قاله الرئيس الصومالى، خلال زيارته للقاهرة أمس الأول، إن عبدالناصر كان داعمًا للصومال، وأخطر ما فعله أنه أرسل البعثات التعليمية من الأزهر الشريف لتعليم الشعب الصومالى الإسلام الوسطى.

فتجربة عبدالناصر، نصير الغلابة والمدافع عن المواطنين، لم يتم كشف أسرارها كاملة من خلال مراكز بحثية حقيقية ترصد إيجابيات فترة حكمه وكذلك سلبياتها ليكون الحكم على الثورة وهذا الرجل من خلال المعايير الموضوعية والواقعية واسترجاعًا للذاكرة وحاضرًا فى كل الأحداث الكبيرة التى يمر بها الوطن أو الأمة، وقد شاهدنا فى أحداث ثورة 30 يونيو 2013 كيف كانت صور عبد الناصر فى كل محافظات مصر؛ لأنه كان رمزًا للعدالة الاجتماعية الحقيقية التى افتقدناها بشكل واقعى.

وبمناسبة مرور 70 عامًا على ثورة يوليو أرسل لى الصديق الكويتى السفير فهد المطيرى صورة تعبر عن قيمة عبدالناصر العربية ومكتوب عليها (تبقى ذكرى 23 يوليو وحيًا وذكرى للأمة العربية التى لن تموت.. رحل جسدك يا قائد ويا معلم، ولكن ستظل روحك خالدة لدى الشعب المصرى والعربى والإفريقى).

والأمر المحير فعلًا أن الشعب المصرى العظيم الذى ليس له كتالوج، لا يذكر اسم الرؤساء السابقين مثل مبارك أو السادات فى أحاديثه واستشهاداته وجدالاته مثلما يذكر اسم الزعيم جمال عبدالناصر، وهذا لغز سياسى من هذا الشعب الذى ارتبط بعبدالناصر، حتى فى لحظات الإخفاق، وما حدث فى 1967 يُدرَّس، فلقد خرج الناس رغم الهزيمة يطالبونه بالاستمرار، وليس ذلك فى مصر وحدها بل امتد الأمر إلى السوادن وسوريا والجزائر وكل البلدان العربية.. وهذه إحدى العجائب السياسية التى تحتاج إلى تفسير أو توضيح، لأنها لا تتكرر فى التاريخ كثيرًا.

وما سمعته من خلال مقابلاتى فى إسطنبول بتركيا أثناء لقاءات ببعض الشخصيات التى عاشت زمن عبدالناصر، قال لى أحدهم ويتعدى عمره الستين عامًا، إنه تم تسميته بـ جمال؛ تيمنًا بجمال عبدالناصر، بل إنه وكل جيله من الشعب التركى ينظرون بإجلال إلى عبدالناصر والشعب المصرى.

كل هذه الملاحظات الواقعية والحقيقية بعيدًا عن الاختلاف السياسى تجعلنا نفكر: لماذا عبدالناصر باقٍ حتى الآن؟ وأثناء أى حدث سياسى مصرى أو عربى تجد صور عبدالناصر مرفوعة، سواء فى سوريا أو بغداد أو لبنان أو فى أى مكان عربى أو إفريقى.

فالتجربة الناصرية لن تكون حكرًا لفصيل بعينه، ولكنها إحدى خصائص الشعب المصرى بتلقائيته وعفويته وفهمه للأشخاص والرجال والحكام، وهو يستشعر من كان معه ومن جاء عليه، فحتى فى صمت هذا الشعب وسكوته تعبير خطير له مدلول سياسى يدرس.

ولا أنسى عندما جاء نابليون بونابرت إلى القاهرة ووجد الشعب المصرى يدخن الأرجيلة ولا يبالى بالمعارك، فقال ما معناه إن هذا الشعب إما أنه مغيب جدًا أو شديد الذكاء وسينتفض فى أى لحظة، وكان الاحتمال الثانى هو ما حدث فعلًا.

فالشعب المصرى بكل أطيافه من عمال وفلاحين وطلبة ومثقفين وعلماء وشعراء رغم اختلاف بعضهم مع عبدالناصر إلا أنهم فى النهاية أجمعوا على حب واحترام هذا الرجل.

وأتذكر ما قاله أحد شعراء مصر بعدما سمع بوفاة عبدالناصر (اليوم رحل أبونا الذى كنا نستمد منه الكرامة والقوة والعدالة الإنسانية والاجتماعية).

فكان عبدالناصر نموذجًا لعشق تراب هذا الوطن، مؤمنًا بالأمن القومى العربى بمفهومه الحقيقى، وتجربة دول عدم الانحياز ما زالت تسير عليها الدبلوماسية المصرية وسفراء وزارة الخارجية المحترمون حتى الآن، كأنها وثيقة سياسية أو بوصلة للسياسة الخارجية المصرية فى كل الأزمان والعصور.

كل هذا جعلنى أتوقف أمام ذكرى ثورة يوليو التى لم يتم حتى الآن الكشف عن كثير من جوانبها الحقيقية.. فاسم جمال عبدالناصر هو الأبقى والأوحد بين كل أعضاء مجلس قيادة الثورة.. وحتى عندما كان يحدث خلاف فى الرأى أو اختلاف فى التوجه مع ثورة يوليو وعبدالناصر بصفة خاصة، فإن أصحاب هذه الآراء أنفسهم كانوا فى النهاية يحترمون عبدالناصر وتجربته، بل إن معظمهم كانت آراؤهم لصالح عبدالناصر، لسبب بسيط جدًا، أنه كان منهم وكانوا هم منه، فهو من صعيد مصر المدافع عن الإنسان فى أى زمان وفى أى مكان، وهى صفة عائلات وأهل الصعيد الكرام، وهو كان من بنى مزار بمحافظة المنيا وهى عروس النيل فى الصعيد، فكانت جيناته الإنسانية والسياسية بعدًا حقيقيًا لآهات وطموحات هذا الشعب المصرى العظيم.

فستبقى ذكرى ثورة يوليو المجيدة وجمال عبدالناصر عالقة فى العقول والقلوب والأخطر فى وجدان الشباب الذى لم ير أو يشاهد حتى مواقف عبدالناصر، وهذه هى قيمة ومعنى الزعماء الذين يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، ولكن هناك زعماء وحكام سيكونون فى مزبلة التاريخ.

رحم الله عبدالناصر وأدخله فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأخيرًا

كن عزيزًا وإياك أن تنحنى مهما كان الأمر..

فربما لا تأتيك الفرصة كى ترفع رأسك مرة أخرى.