شعبان خليفة يكتب : رواية «سِدْرَة» لـ ” غادة العَبسى” كتابة مغايرة بدم القلب

- "العَبسى" لم تكتب بوحًا أو سردًا لسيرة ذاتية بقدر ما سطرت رواية متفردة تنتمى لأدب التجربة
ثَمّة كتابةٍ عن المرأة لا يتقنها إلا المرأة كتلك المتعلقة بموضوعات شديدة الخصوصية، والثراء كتلك التى تنتمى إلى «أدب التجربة»– إن صح التعبير- حيث لا يمكن لمبدع روائى رجل مهما بلغت براعته أن يكتب عملًا روائيًا عن عمق العلاقة بين المرأةِ ، ورحمها.. الأم وجنينها.... هذه كتابات تحتاج لأنثى وهبها الله القدرة على تحويل المشاعر إلى كلماتٍ نابضةٍ غير منزوعة الحياء.. لها لسان وشفتان وعينان.. أنثى تعرف أسرار كيمياء المرأة التى قد لا تظهر فى معامل التشريح.. ودقات قلبها غير المعدودة.
وتلك من خصوصيات رواية «سِدْرَة» للطبيبة الأديبة الفنانة غادة العبسى التى أثمرت تجربتها- حتى الآن - رغم مشاغل مهنتها الطب، وهويتها الفنية «الغناء» فضلًا عن المعتاد من شواغل الحياة ، ثمانية أعمال أدبية 5 روايات و3 مجموعات قصصية.. بدأت بـ «حشيشة الملاك 2013م ثم بأولاد الحور 2014» ثم مجموعة «بيت اللوز 2018م» أما الروايات فهى «الفيشاوى 2014، الإسكافى الأخضر 2017م، ليلة يلدا 2018م، وصولًا إلى «سِدْرَة» و كوتسيكا على التوالى وكلتاهما 2021م».
استرجاع مزجى
تبدأ رواية «سدرة» التى نحن بصددها للكاتبة غادة العبسى بما اصطلح عليه فى السرد الروائى بمصطلح "الاسترجاع المزجى" حيث تجمع بين حدثٍ ماضٍ وقع قبل أحداث الرواية ثم حدث لاحق لبداية الرواية، فبعد الإهداء الدال الذى جمعت فيه الأحبة "سدرتها.. الزوج .. أبناء الزوج.. بابا وماما ثم كل الذين فقدوا أحباءهم موتى وأحياء مع استحضار لصناع أغنية «سيد الحبايب» منير مراد وشادية التى برعت فى غنائها كأم مع أنها لم تصر أمًا فى الحقيقة قط.. تنتقل بنا غادة العبسى ببراعة السرد ،والوصف،و الحوار "بين حوضين زجاجيين" حوض سمك تستدعيه من ذاكرتها فى طفولتها وحوض فيه مولودتها «سِدْرَة» التى خرجت للحياة للتو بعملية قيصرية عقب ثمانية أشهر حمل ،ومعها آلامها البالغة التعقيد" - متلازمة داون.. مصرانها الأعور فى الشمال وأمعاؤها أيضًا فى اليسار على عكس الطبيعيين –" وعلى عكس الأسماك فى حوضها حرة.. فإن سدرة فى حوضها أسيرة مقيدة صائمة ... تصارع الموت.
وتبحر بنا الكاتبة إلى عالمها وعالم «سِدْرَة» وما تمثله من حلمٍ بالإنجاب زمنه عشرون عامًا.. إبحار حافل بالمشاعر والإثارة .. كيف تحقق حلمها..؟ كيف يتلاشى..؟ وكيف عاشت «سِدْرَة» 24 يومًا كأنها 24 قرنًا ؟ كيف رأت ملائكة وعرفت الدنيا والآخرة حتى وهى فى قمة عذابها بحوضها الزجاجى ..؟ ( شكراً يا رب أنك أرسلتهم إلىّ ، يحكون أنفى و أذنى عوضاً عن أظافرى وكفى المقيدين ، يطعموننى من قربة فضية مكتوبٌ عليها " سدرة " مملوءة بلبن فردوسى لذيذ الطعم ، طيب الرائحة ، عندما أنام يأخذوننى فى جولة سماوية لألهو مع أقرانى .......و أتوسل إليهم فى كل مرة ألا يعدونى مرة أخرى إلى الحوض الزجاجى الموحش ....) ص 84
ثم خلال الإبحار بنا تَسَمَّرَنا لنتابع كيف عاشت الأم ما بين حافة الانهيار أو الجنون؟
وكيف جاء الإنقاذ على يد «سِدْرَة» مثلما جاء الآلم بصحبتها؟ إنقاذٌ يفاجئنا مصحوباً بـ«الحوض الزجاجى المرتكن إلى زاوية اليسار» لننتهى كما بدأنا بالحوض ومع الحوض تسدل «سِدْرَة» الستار وهى تعترف بأنها بخير غير أنها ما زالت تكره ذلك الحوض رغم انتقالها إلى عالم الآخرة الرحب الفسيح.
لوحات فنية
الرواية ستة عشر لوحة قلمية رسمتها غادة العبسى بمشرط جراح تارة، وريشة رسامٍ بارعٍ تارةً أخرى مع موسيقى تصويرية هادئة أحيانًا ..صاخبة أحيانًا أخرى و فى الحالتين نحن أمام مشاعر فياضة ، وصراع متعدد.. صراع الأمل واليأس، الموت والحياة.. الهلاك والنجاة.. بعد كل هذا الإبحار و التَسَمَّرَ نكتشف أن «سِدْرَة» لم تمت بل مازالت هى من يحرك الأحداث.
رواية غادة العبسى «سِدْرَة» ولدت من رحم المعاناة..كُتبت بدم القلب.. نسجها خيال بارع متكئاًعلى ثقافة عريضة وتمازج عقلى وقلبى بالغ العمق بين الشخصيات والأحداث عبرت عنه الكتابة كثيرًا وهى تتحدث عن "سدرة" وإليها:
(اختلاط دمى بدمها ومائى بمائها جعل لتاريخى رائحة طازجة فى أنفى كالطلاء الجديد لدرجة أننى طمعت فى فرصة لمحو ما فات مما يسوؤنى تذكاره فلربما محا ماؤها الطاهر خطاياى!) ص 12
حالة من التماهى بين الأم و جنينها «سِدْرَة» يبرزها الحوار بينهما ("مَن مِنّا ينقر فى بدن الآخر؟ أنا أم أنتْ» ص 58 ثم تعود فتكرر السؤال على نحو أعمق
"مَن مِنّا ينقر فى بدن الآخر؟ أشعر أن روحى تتسلل منى إليك تنفلت من خلاياى لتسكن إياك كالرمال فى ساعة رملية عتيقة أشعر معك أنى فرخٌ صغير مثلك، أستعيد قدراتى الجنينية القديمة فى رحم أمى لأتخللك، أنا حبلى بك وأنت تحملنى.. دعك من أحاديثهم وزعمهم بأن لا روح لك قبل شهرين أو ثلاثة" ص59).
وها هى تكشف لنا أن عمق العلاقة بين رحم الأم والجنين لا ينتهى بالولادة حيث تبقى تلك الأشياء التى لا يمكن للطبيب استخراجها ،وهى أشياء لا تُرى بالعين المجردة أشياء«سِدْرَة» (بصمات اصابعها الصغيرة.. همهماتها فور أن أصبحت حنجرتها جاهزة للاستعمال وهى تجرب صوتها لأول مرة فى ظلمة رحمى.. دهشة عينيها كلما سمعت صوت أبيها مناديًا إياها عبر جدار بطنى ومصافحاتها له بمد قبضتها الصغيرة من خلالى...) ص 13.
حين خرجت "سدرة" من رحم أمها وذهبوا بها للحضّانة ولم تعد الأم قادرة على الذهاب إليها وصارت تطلب من زوجها أن يصفها لها فيرد "مثل البدر يا حبيبتى" تغيرت أشياء كثيرة حتى دور وظائف أعضاء الجسم تتساءل غادة : "ما فائدة رجلىَّ إن لم أسِر بهما إليك يا سدرة ؟" ص 20
ولا تكتفى بتغير وظائف الأعضاء الحسية فحتى خيالها تغير إنها تحولات فصارت داخل الحوض الزجاجى مع ابنتها ترى بعينيها الملائكة من حولها وتعيش كافة ما يجرى فى عقلها وتروى على لسان "سدرة" أول ساعة عاشتها فى الحضّانة خارج رحم امها
( أمى .. حبيبتى ..كم أفتقدك ، كم أشتاق إلى ضمتك الحانية ، وصوتك عندما تغنين لى، ما الذى حدث لماذا لم تأتى بعد.. الوقت فى الدنيا يمر ببطء شديد لا أصدق أن عمرى الآن ساعة كاملة) ص 27.
وتمارس الكاتبة الاسترجاع الذاتى فى مواقف عديدة ففى قمة محنتها و قد ايقنت أن مولودتها فى خطر تسترجع كلمات الأطباء المُرة ..المسننة ..الكلمات التى له أنياب كلمات عن العمر و الإنجاب المتأخر ..تسترجعها ثم تجيب وكأن سائلاً فى أعماقها سألها لماذا تسترجعين هذا الآن فترد:
( استرجع ذلك الآن لأننى فى حاجة إلى الأمل لربما يأتى من خارج عالمنا على شكل منح سماوية .... ) ص65
التناص
ومن صفحة إلى أخرى فى رواية «سِدْرَة» نكتشف ذلك التناص الذى تحفل به الرواية حيث التداخل بين الأنا الروائية والأنا الطبيبة.. بين الأنا الروائية والأنا الفنانة.
فعندما تحدثنا غادة الروائية عن لحظات الوضع ،ونقل ابنتها للحوض الزجاج ومشاعرها بعد أن فارقت رحمها تتداخل معها الأنا الطبيبة فتكتب (أول ليلة يا "سدرة" تنامين فيها خارج رحم أمك فى عالمٍ قاسٍ متحجر، لسوء الحظ أعرفه جيدًا، قضيت ما يقرب من عشرين عامًا تحت أسقف المستشفيات وبين جدرانها الباردة طوال سنوات الدراسة بكلية الطب وما تبعها من سنواتٍ فى العمل داخل مستشفى الكلية وخارجها لأكثر من نصف عمرى حاولت جاهدة ألا أوجع قلوب الأمهات. تحملت أشياء أهونها كان السهر لأيام مع العمل المتواصل وأشدها كان بصقة فى وجهى أرسلها أب فقد أعصابه أمامى مشحونًا بالغضب خلف أبواب الطوارئ ومكاتب الموظفين والخزينة وصمت الأطباء المشغولين بأعداد المرضى الكبيرة.. ولكن لا قبل لى بأول ليلة تفارقينى فيها بعد ثمانية أشهر من المخالطة والمؤانسة، ثمانية أشهر من الحب الخالص الفائق عن الحد ....) ص 20-21.
وفى موضع آخر و قد سلبها معرفة أصابة أبنتها بمتلازمة دون أى لحظة للراحة وراحت تبحث عن ثقبٍ يمر منه شعاع نورٍ ليبدد حصار الظلمة تقول غادة: (لو اطلعت على مخ "سدرة وأمسكته بيدىَّ كما بتُّ أفعل أثناء دراستى للتشريح فى الكلية... المؤكد أن مخ سدرة ساجد وميطانى- الميطانية فى المسيحية تعنى السجود الكامل وهى أصلها يونانى- وربما كان بتلافيف طبيعية بأخاديد ...) ص 90-91.
ويبلغ التناص قمته بين الأنا الروائية والأنا الطبيبة فضلاً عن الأنا الروائية وبطلة القصة فى رواية «سِدْرَة» فى مشهد تبدع فيه البطلة «سِدْرَة» وهى تخاطب الطبيبة والكاتبة معًا (أعرف أنك تتحرقين شوقًا لإجابة تريحك إذا ما كنت سليمة العقل أم لا، أنا أضحك من قلبى الآن، أضحك ضحكة طفل عالية ومتتالية تخلو من كل هموم الدنيا أتراك تحزنين أقل يا ماما لو عرفت أنى بعقل معتل ليشفى هذا صدرك مثلًا؟ أم هى رغبة الطبيبة فى استكمال خيوط المتلازمة وتدوين التاريخ المرضى كاملًا كى لا تتركى سؤال الامتحان دون إجابة أم تراه فضول الكُتاب لمعرفة نهاية الرواية) ص 141.
أما الأنا الروائية والأنا الفنية فحاضرة بداية من منير مراد وشادية مرورًا بالست أم كلثوم ، وغوصاً مع محمد عبدالوهاب وقصة الكاتبة مع أغنية "من غير ليه" ومع عبدالوهاب نفسه وهى تكشف (تذكرت بأننى تعرفت على تلك الأغنية متأخرة أيضًا بل كنت أنفر منها أنا التى لم تفوّت لحنًا للأستاذ أعكف على أغنياته أدرسها وأحفظها ) ص36.
توظيف التراث
كما تحفل الرواية بتوظيف النصوص الدينية والتراثية فى سياق الأحداث وتطورها، ومن التوظيف الجميل للمقدس والتراث معًا هذا المشهد للبطلة تتأمل "سدرتها" الطفلة فى أيامها الأولى قبل الرحيل:
(أنظر إلى أظفارها التى لم تنمُ بعد، كشجرة سِدر منضَّدة من الشَّوْك، ليس غريبًا أن شجرةَ السِّدر هى ذاتها شجرة المسيح، يقولون: إن منها صُنع تاج الشوك، أتذكَّر كيف زارتنى "سدرة" فى رؤاى وهى تتكلم فى المهد. فى سفر أيوب هى ملاذٌ لوحوش البر، يضطجع تحت السِّدرات الوحشُ "بهيموث" مطمئنًا، ليس غريبًا أنها حيث المنتهى إلى يمين عرش الرحمن، عندها جنة المأوى.) ص 115.
كما تأخذنا الكاتبة لمشهد شديد القسوة لتطرح السؤال (هل تعرف ما هو الجحيم؟ - ثم تجيب- أن تشاهد موت ابنك قطعة قطعة) ص 122.
وما بين العشر الأوائل من ذى الحجة وشراء الأضحية وليلة العيد تصل بنا الكاتبة إلى مشهد رحيل "سدرة" وتحمل والدها عبْء دفنها إلى جوار جدها الولى وقبل الانهيار تجد الكاتبة لنا ولها المخرج "لا يتغير القضاء حتى نرضى به" ص 138.
وتنتهى الرواية على «سِدْرَة» تردد «أنا بخير» ساردة السبب وهو التخلص من كل الأدواء و عدم خشية الفقد ولا الموت لكنها وكما تقول: (فقط وبكل صراحة ما زلت لا أحب ذلك الحوض الزجاجى المرتكن إلى زاوية اليسار) ص 142.
تَمكُّن
«سِدْرَة» ليست سيرة ذاتية ولا مدونة للبوح لكنها غوصٌ ماهر فى عالمٍ شديد الخصوصية ..عالم من التخيل والتأويل مارسته كاتبة متحكمةٍ فى عناصر روايتها.. "الشخصيات.. الأماكن.. الأزمنة.. الحبكة" متمكنةٍ من أساليبها سردًا وحوارًا ومناجاة ووصفًا، فضلًا عن براعة البناء الروائى.