جريدة النهار المصرية

ثقافة

جدلية الفناء فى الذات.. مسرحية الخان إبداع كيميائى يستدعى الحلاج فى رحلة كنز بن غانم.. صور

-

"عجبتُ منك ومنـّـي يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي أدنيتـَني منك حتـّـى ظننتُ أنـّك أنـّــي وغبتُ في الوجد حتـّى أفنيتنـَي بك عنـّــي"

الحلاج كانت مأساته هى الفناء في الذات، فزهد الحياة، وتعمق في الحب الذي يلامس الروح ويسمو بها لتصل إلى محبّة الله لدرجة الفناء بالذات الإلهيّة، وهو العشق الذى أودى به إلى الإعدام، حيث لم ترق كلمات شعره لمحاكميه، فاستوجب الحد.

وهى المأساة التى عبر عنها الشاعر صلاح عبد الصبور في مسرحيته "مأساة الحلاج" قائلا: "الحب سر النجاة، تعشق تفز وتفنى بذات حبيبك، تصبح أنت المصلى وأنت الصلاة وأنت الديانة والرب والمسجد، تعشقت حتى عشقت، وأتحفنى بكمال الجمال، جمال الكمال، فأتحفته بكمال المحبة، وأفنيت نفسى فيه".

الفناء فى الذات كان طوق النجاة لإنقاذ "ابن غانم" من غياهب الجب وظلام معاصيه وخطاياه، الدنيوية، حيث أغوته شهوة الحصول على كنز قارون –وهو نباش كنوز الأرض- إلى الوقوع في الزنا وشرب الخمر وإدمان السحر، فى محاولة لإخراج ما ابتلعته الأرض بكلمة من الله.

وللتعرف على مفهوم الفناء في الذات، والتى نصح بها الناصح الأعلى وصوت الضمير اليقظ -إن جاز التعبير- عنه ابن غانم في مسرحية "الخان" للمؤلف محمد على، فنجد في كتاب «دراسة فى التجربة الصوفية» للباحث نهاد خياطة، عن مفهوم الفناء في الذات مستشهدًا بقول ابن عجيبة: «إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كل شيء، وتغيبك عن كل شيء، سوى الواحد الذى ليس كمثله شيء»، مشيرًا كذلك إلى المثال الذى كثيرًا ما يسوقه الصوفية تبيانًا لحالى الفناء والبقاء، جواب «قيس ليلى» عندما سُئل «أين ليلى؟»، وقوله: «أنا ليلى» فـ«قيس»، لما قال ما قال، كان فانيًا عن نفسه باقيًا بـ«ليلى».

استخدم محمد على ألفاظا قرآنية ومصطلحات صوفية في نصه المسرحي الذى عرض مؤخرا على مسرح الهناجر في دار الأوبرا المصرية، بلغة عربية رصينة تجلت في ظهور "ابن غانم" بطل النص وصاحب اللغز، في حُلم شاهده جميع نسله السبعة الذين يطلبون ثروته في خان مسحور، اغُلقت ابوابه عليهم.

وازن محمد على بين العربية الفصحى والعامية المهذبة في عالمين رصدهما وهما: عالم ابن غانم التائه فى معاصيه الباحث عن النجاة، وعالم نسله السبعة الباحثون عن الكنز.

يناجى ابن غانم نفسه باحثا عن كنز قارون ويعترف باقتراف المعاصي والخطايا للحصول عليه، فيتحداه –الناصح الأعلى وصوت الضمير اليقظ- بأن الكنز الذى خسف به الله الارض لن يخرج بكلمة من انس ولا جان، فيطلب حينها علم قارون –وهو الذى قال أوتيته عن علم عندى- فأمره بالفناء في ذاته، وهنا سحبت منه كل نعم الجسد من حواس، وعادت له تباعا بخصائص اخرى تتعدى حدود المكان والزمان.

حسام التونى مخرج العمل المسرحى كان له دور كبير في التعبير عن رمزية المكان والزمان، فاستخدم التفاحة الحمراء رمز الغواية منذ ادم ليعبر عن مكنون النفس البشرية من اطماع وهو ما ظهر في ثلاثة مشاهد استخدمتها ابنة العم الكبرى لغواية ابن عمها البلطجى لقتل بقية نسل ابن غانم، كما استخدم رمزية صلب المسيح حين وقف "ابن غانم" الجد يرثى نفسه باكيا أمام باب الخان الحجري، المنقوش عليه بأوامر شيطانية "الكنز بالدم"، وساعده التصميم الرائع للديكور والاضاءة التى كات عنصر فاعل ظهر فى الاضاءة البراقة فى عصر البشاوات والغيوم والخفوت فى مشاهد ابن غانم.

تبدأ المسرحية بإعلان في حقبة عصر الطرابيش يدعو كل نسل "ابن غانم" هذا الثرى نباش الكنوز الذى عاصر القرن السادس عشر، لاستلام تركة جدهم، فيجتمع ستة من نسله بصاحبة الاعلان في مقر الخان المهجور الموبوء بالزلازل في صحراء بعيدة.

يباتون السبعة في الخان فيغلق عليهم بابه بحجر كبير عليه نقوش غريبة، ينجح في حلها احدهم، فيكتشفون أنه لا حل لفتح الباب أو للحصول على الكنز إلا بقتل 6 منهم ليخرج الكنز للأرض الاولى –فهو في باطن الارض السابعة- ويفتح لهم الباب، فيبدأون في التخلص من بعضهم البعض، ويكتشف أحدهم أن صاحبة الاعلان كانت على علم بهذا السر وأنها جمعتهم لتحصد أرواحهم طمعا في الكنز، حيث استخدمت التفاحة لغواية البلطجى ابن عمهم للتخلص منهم إلى أن تُقرر التخلص ايضا منه في النهاية بتفاحة مسمومة.

أبطال العمل قد لا يعرف الكثيرون اسماهم، وليسوا ممن تسلط عليهم الأضواء، اطلقوا على انفسهم فرقة "كيمياء" فأجادوا تسجيد أدوراهم ببراعة فائقة بنسب ومعادلات علمية، تنقص كثيرين ممن يتصدرون أغلفة المجلات والصحف الفنية، ياسر ابو العينين ما هذه البراعة فى تجسيد ابن غانم، كيف تنساق كلمات العربية الفصحى بهذه السلالة من فمك، فقد فنيت ذاتك فى "ابن غانم" فكنت هو وهو أنت!.

فلسفة النص ترتكز على إبراز مخاطر الانسياق وراء الشهوة والغواية للنفس البشرية، والتي وصفها الله –عز وجل- في كتابه "ألهما فجورها وتقواها"، وأن الانسياق وراء تلك الشهوات بمكر بشرى يواجه مكر إلهى "فيمكرون ويمكر الله"، ونهايته "وحاق العمل السئ أهله" فيموتون جميعا دون الحصول على الكنز، ويرفض ابن غانم الحصول على علم قارون الذى لا قبل له به، لنكتشف نحن المشاهدون أن الكنز الحقيقى هو الروح النقية التى ترى ما لا يراه الناظرون.