جريدة النهار المصرية

مقالات

محمد شيرين الهوارى يكتب: زراعة الأمل

محمد شيرين الهوارى
-

وزارة الزراعة واستصلاح الأراضى ووزيرها الأسبق الدكتور عصام فايد والحالى الدكتور عبد المنعم البنا هى من الوزارات القليلة جداً التى كانت على الأقل فى عصره تعمل فعلاً بصمت بينما تنشغل معظم الوزارات الأخرى بأن تملأ الدنيا ضجيجاً وتظهر فى الفضائيات يومياً ويتصدر اسمها عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية لتقول لنا أنها تعمل فى صمت. 
فارق كبير بين وزير نسمع عنه على مدار الساعة وهو يحدثنا عن إنجازاته العظيمة وأفكاره النيرة والأمثلة على ذلك كثيرة وآخر يكاد لا أحد يعرف اسمه على الإطلاق ولكن نفاجأ صبيحة يوم من الأيام بخبر هام قد يعطى لنا جميعاً ولو القليل من الأمل.
فهؤلاء تمكنا فى الفترة من 19 سبتمبر 2015 وحتى اليوم، أى عامين تقريباً، من إحداث ثورة غير متوقعة وغير مسبوقة أيضاً فى زراعة أحد أهم المحاصيل الاستراتيجية المصرية – أو هكذا كان فى سابق العصر والزمان – ألا وهو القطن الذى ظل محصوله يتضاءل سنة تلو الأخرى على مدار العقود السابقة حتى وصلت المساحة المنزرعة به إلى 130 ألف فدان فقط لا غير واستطاعا أيضاً بسياسات رشيدة وعلمية من زيادتها إلى ما يقترب من الضعف فى عام واحد فقط لتصير الآن 220 ألف فدان.
وليس هنا بالطبع هو المكان المناسب للخوض فى التفاصيل الفنية التى مهدت لهذه النقلة المحورية من إعادة تفعيل دور الإرشاد الزراعى وإلزام المزارعين باحترام مسافات العزل واستنباط أصناف تقاوى جديدة أكثر كفاءة وإنتاجية عبر مركز البحوث الزراعية التابع للوزارة، فهذه جميعها تفاصيل تهم المتخصصين الزراعيين دون غيرهم.
كما لا أبتغى أيضاً من هذا المقال كتابة قصيدة شعر تمجيداً فى هذا الوزير أو ذاك رغم احترامى لهما وتقديرى لإنجازهما. فلهذا أيضاً مجال آخر.
ولكن ما يهمنى هنا حقاً هو كيف يُمكن للدولة المصرية الاستفادة من هذه التجربة على نطاق أوسع حيث توضح لنا أن هناك طرق يمكننا سلكها للخروج من الوضع المأزوم للاقتصاد المصرى بأساليب أكثر إفادة على المدى الطويل من إلقاء كامل العبء على كاهل المواطن البسيط ورفع الضرائب وزيادة الأسعار وتقليص الدعم وتوزيع الأراضى بالمجان على المستثمرين إستجداءً لهم كى يقيموا مشروعات محدودة القيمة بالنسبة للاقتصاد الوطنى ككل بالرغم من أنها قد تخلق بضعة مئات من فرص العمل ونحن بحاجة إلى ملايين.
فما يهمنا هنا حقاً هو أن زيادة المساحة المنزرعة بالقطن يرتبط بها طبعاً زيادة المحصول وبالتالى زيادة المعروض بشكل ملموس وهو ما خفض الأسعار بنسبة تتراوح من 18.5% إلى 28.5% بين هذا الموسم والموسم السابق عليه وهى نسبة مرتفعة للغاية وستنعكس حتماً بالإيجاب على عدة صناعات وفى مقدمتها المنسوجات بأنواعها التى سترى إنتعاشة واضحة فى مبيعاتها لانخفاض قيمة أحد المدخلات الرئيسية وما سيستتبع ذلك من قدرتها على البيع بأسعار تناسب أكثر القوة الشرائية المحدودة حالياً للمواطن المصرى. 
هذا بالإضافة إلى أن تلك الصناعات تحديداً هى فى الحقيقة صناعات يقتات منها آلاف العمالة نساءً. بمعنى آخر: لا يرتبط موضوع خلق فرص عمل أو دفع عجلة النمو بالضرورة بإعطاء المستثمرين تيسيرات خيالية تصل إلى "صفر ضريبة" فى بعض الأحيان بكل ما فى ذلك من تقليص لإيرادات الدولة السيادية، بل يرتبط أكثر بفكرة تحفيز القوى الإنتاجية والشرائية تحفيزاً حقيقياً وتمكينها من الحصول على ميزات تنافسية تتعدى مجرد الإعفاءات النقدية. ما تحتاجه الأسواق حقاً هو رفع نسبة مبيعاتها وتدعيم قدرتها على الحفاظ على مستوى أسعار معقول وبالتالى ربحية مُرضيةتُمكن المُصنع من دفع رواتب عماله والتاجر من سداد قيمة إيجار محله.
كما لا يُخشى على المزارعين من تراجع أرباحهم بسبب نزول سعر ما يزرعونه لأن زيادة الإنتاجية أو الربحية لا ترتبط فقط بزيادة المساحة المنزرعة ولكن أيضاً بكفاءة الزراعة المتمثلة فى القدرة على الإرتقاء بكمية المحصول من خلال اتباع طرق الزراعة السليمة. وما نعنيه بهذا هو أن حسن إستغلال المساحة لتعظيم الإنتاجية هو الطريق الأمثل لزيادة ربحية أى مُصنع على وجه العموم و يرفع أيضاً قدرته على عرض منتجه بأسعار مناسبة والوفاء بالتزاماته تجاه الدولة وليس إعطاء المستثمرين مساحات كبيرة لإغرائهم فحسب كما يحدث الآن دون النظر إلى الاحتياجات الفعلية فتضيع بالتالى طاقة إنتاجية هائلة وتظل غير مُستغلة لسنوات طويلة فيكون الأثر السلبى أثر تراكمى.
وغنى عن القول ما سيكون لزيادة المساحة المنزرعة بالقطن من انعكاسات على الصادرات منه والتى يتوقع أن تكون قد ارتفعت بنهاية الموسم من 660 ألف قنطار بقيمة 101 مليون دولار العام الماضى إلى 800 ألف قنطار بقيمة ما بين 120 إلى 125 مليون دولار العام الحالى وبارتفاع 25%. دعونا نتخيل أنه لو الزراعة السليمة لمحصول واحد فقط يُمكن أن تدر على البلاد هذا المبلغ من خلال 130 ألف فدان زيادة، فماذا سيكون عليه الحال إذا وصلنا مجدداً إلى مستويات عام 1990 حيث كنا نزرع 993 ألف فدان بالقطن المصرى ذو "الشنة والرنة" فى كل أنحاء العالم. تخيلوا معى مردود ذلك على سوق صرف العملات الأجنبية والأسعار بالتبعية، خاصة لو نقلنا نفس التجربة إلى محاصيل وصناعات أخرى.
هذا بالرغم من أننى من حيث المبدأ لست مع تعظيم صادرات الخامات بقدر ما أرى ضرورة مُلحةلزيادة دعم الصناعات التحويلية القائمة على خامات متوفرة لدينا بدلاً من الاعتماد على الخامات المستوردة.
خلاصة القول هى أن الاقتصاد المصرى إن أردنا له التقدم يحتاج إلى منطلق مختلف عن المتبع حالياً حتى يمكنه التحول إلى اقتصاد مُنتج قادر على خوض المنافسة عالمياً بدلاً من أن يكون متمحوراً حول نفسه وأن يكون النشاط الزراعى فى قلب هذا التحول. يجب علينا إذن زرع الأمل اليوم وليس غداً وهذا لن يتأتى إلا بطرح تصور له شق عاجل يلمس المواطن فوائده بشكل فورى بالتوازى مع الخطط طويلة الأمد وهى مطلوبة بكل تأكيد ولكن إن تم اختصار كافة الأنشطة الاقتصادية للدولة فيها هى وحدها ستكون النتيجة الحتمية وفاة المريض قبل وصول الدواء.