جريدة النهار المصرية

مقالات

  أمير ألماني يصف القدس

حمدى البطران
-

بقلم : حمدى البطران 

في أعقاب الثورة التي أحدثها محمد علي , الذي تولي الحكم عقب خروج الحملة الفرنسية من مصر , بدأ اهتمام الأوروبيين بمصر باعتبارها دولة جديدة تظهر علي الأفق , وبدأت تتوافد علي مصر وفود السياح والمستكشفين والرواد بقصد السياحة والاستكشاف .

في عهد الخديوي إسماعيل جاء الي مصر صاحب السمو الإمبراطوري الأرشيدوق ردولف من أمراء مملكة النمسا الذي ينتمي الي آل هبسبرج  زائرا , كانت النمسا وقتها تحت حكم الإمبراطور فرانسوا جوزيف , وقد سجل الأمير رحلته في كتاب بعنوان " رحلة الأمير ردولف الي الشرق " وترجمة الي اللغة العربية الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ ضمن مشروع الألف كتاب الثانية الذي قامت به الهيئة العامة للكتاب [ ] , وقد قام الدكتور عبد الرحمن الشيخ بتفنيد بعض المزاعم والآراء التي أوردها الأمير ردولف في الكتاب والتي تظهر مدي جهله  بالإسلام والمسلمين في تعليقات بالغة الدقة وتنم عن غيرة وطنية وثقافة عالية وعلم غزير للمترجم .

لم يشاهد الأمير في رحلته أي فرق عرقي بين المسيحيين والمسلمين واليهود , في سوق الحمزاوي الواقع في حي النحاسين , فقد كان سوق الحمزاوي يمتلئ بالتجار المسيحيين واليهود في حي الجواهرجية , ويري الأمير أن البربر يشكلون جزءا من سكان مصر خاصة في الصحراء الغربية , وقد رآهم يعملون جنبا الي جنب مع النوبيين في حراسة مراكز الصرافة وبيوت المال .

يعتبر كتاب الأمير رودلف عن الشرق بمثابة بحثا متعمقا في نشأة الديانات الثلاث الشرقية ومسيرتها علي أرض فلسطين , فذكر ان اليهودية كانت الديانة الأولي التي دعت الي عبادة الله , ويري أن المسيحية تمتد أصولها الي الديانة اليهودية , وعندما ظهر الإسلام أمكنه أن يحافظ علي الديانات السامية القديمة , ولأنه لم يهدف أن يكون استمرارا لها بين الأجناس نفسها إستطاع لهذا السبب أن تكون له السيادة في هذة المنطقة , وأن ينتشر منها الي الشعوب الأخرى , ولا ينسي رودلف أنه غربي وينظر بإزدراء الي العادات والتقاليد الشرقية .كما كان ينظر بازدراء خاص الي الأقباط 

ويقول الأمير ردولف عن العقيدة القبطية:

- انها كأي شئ آخر في الشرق بقيت دون تغيير في الأعراف والعادات والطقوس والملابس الكهنوتية , فهم يرتلون القداس كما كان يرتله المسيحيون الأوائل الذين دخلوا المسيحية من آسيا الي أفريقيا ويؤدون الطقوس ويبشرون بالطريقة نفسها التي كان يتبعها أسلافهم , ولكن طقوسهم وشعائرهم لا تتفق أبدا مع طقوسنا وشعائرنا في الغرب , وإنما احتفظوا بها كما كانت , ونحن نري في القبط صورة عقائدية للمسيحية في أيامها الأولي , ومن الناحية العرقية فإن قبط مصر ينتمون للعرق نفسه الذي ينتمي إليه المصريون الآخرون   . 

ويقول الأمير رودلف عن اليهود إن حكاياتهم مقززة ولا تنتهي:

- " .. وكان علي مثلي في ذلك مثل كثير من المسافرين الآخرين أن أستمع إليهم , ولكنني كثير الشكر لله لأني نسيت معظم حكاياتهم , وأحيل القارئ المتسامح الي تجرع جرعات من الدواء الذي يتجرعه مرضي الهوميو , فهو رغم بشاعة مذاقه يمكن تحمله أكثر مما يمكن تحمل حكايات اليهود . 

 

أما عن رحلة الأمير الي القدس , فقد قصد إليها بعد وصوله الي ميناء يافا , وتابع طريقه الي للقدس الشريف , وزار الأماكن المقدسة هناك , ووصف لنا مشاهداته , وزار بيت لحم وأريحا وشواطئ البحر الميت , ودون في الكتاب كل التفاصيل الدقيقة .

غير أن الأمير كان دائما يربط بين الغش واليهود , ويقول : 

" ... بعد زيارة قصيرة غادرناه الي الحي اليهودي , ثمة بعض الأسواق يسيطر عليها اليهود في حوار مليئة بالمحلات التجارية , قذارة ووسخ وروائح نتنة وضوضاء , ولا يستطيع المرء إلا بشق الأنفس معرفة مصدرها . واليهوديات ترتدي الواحدة منهن وشاحا مهندم تلفه حول رأسها المجزوز , والرجال يبيعون ويشترون ويغشون "

وقال الأمير عن طريق القدس انه متعرج علي طول المنحدر الواقع فوق الهضبة , وبدأت الشجيرات وكل آثار الحياة النباتية تختفي رويدا رويدا حتى انعدمت , وبدأت الصحراء الصخرية المقبضة . 

وعندما يصل الأمير الي الأماكن المقدسة يقول : الأرض كريهة , إن المرء لا يستطيع أن يبعد نفسه عن هذا الشعور , وتبدو المنطقة كلها علي حزينة نحو فريد , ولكنها عظيمة في الوقت ذاته , وتأخذ بتلابيب المرء مشاعر خفية غامضة " 

وزار الأمير كنيسة بيت لحم ويقول إن أسقف بيت لحم اليوناني استقبلنا عند البسطة الأولي , وكان يحيط به عدد كبير من الرهبان البائسين غاية البؤس , وفي وسط هذا المنبسط يوجد مبني صغير له قبة , ويوجد به ضريح القديس سابا , وهو قبر مغطي بكثير من الزخارف الثرية , وبالقرب منه توجد كنيسة القديس نيقولا الصغيرة , وبالقرب منه توجد كنيسة القديس نيقولا الصغيرة , وهي مجرد تجويف في الصخر , وفيها تحفظ جماجم الشهداء الذين ذبحهم خرزوية   " .

تحدث الأمير باحترام كبير عن مسجد عمر , وقال إن الحرم الشريف عبارة عن مساحة واسعة محاطة بالأسوار والمسجد الرئيسي , وقبة الصخرة , ويقع في وسط الساحة بقبته الشامخة وأروقته وأعمدته وصالته المثمنة . 

وقال الأمير إنه ثمة اعتقاد أن الصخرة هي مركز العالم , وأن كان هناك اعتقاد آخر أن كنيسة القيامة هي مركز العالم , وقد حدد المركز بوضع حجر صغير عليه داخل الكنيسة .

ويتحدث الأمير رودلف عن النساء في القدس ويقول : 

- " النساء هنا أكثر لفتا للنظار فهن ملتفات في أثواب واسعة مسبلة ملونة , وقد لففن فوق رؤوسهن ثيابا بيضاء , وبشرة الواحدة منهن شاحبة وعيونها في غاية الجمال , وكذلك ملامحها وشعرها , جمال يفوق الوصف . لم أر أبدا نساء أجمل من نساء بيت لحم . كل هذا العدد الكبير من النساء الجميلات في مدينة واحدة , إن المرء لا يستطيع ان يلاحق بعينيه عاصفة الجمال تتلوها عاصفة أخري . ‘نهن نماذج من العذراء مريم النبيلة , والنساء الكبيرات اللاتي قرأنا عنهن في العهد الجديد يسرن هنا بلحومهن وشحومهن , فالمسافر المندهش يجد نفسه وقد انتقل في حلم الي أيام السيد المسيح المنقذ عندما اوت السيدة العذراء الرجل الطيب في إسطبل بائس "

ويقول في موضع آخر يقول  : 

- " اقتربت مني فتاه مسيحية من هذة الأنحاء علي سلم بيت البطريرك , كانت شرقية خالصة , ترتدي اللباس القديم , وتضع فوق رأسها غطاء رأس أبيض اللون , ولم تكن محجبة , كان منظرها مدهشا .وملامحها دقيقة وقوامها رشيقا وسحنتها شاحبة , إنه أفضل نموذج لمن يريد أن يتصور مريم المجدلية , وقد سلمتني ملتمسا , واختفت بين صفوف العمدة .

وقد تحدث الأمير رودلف عن القدس بنوع من التعصب ينتمي الي مقاتلي الحروب الصليبية ويقول :

- " إنها المدينة المقدسة التي ولدت فيها عقيدتنا المسيحية التي بدأت منها أعظم التحولات في تاريخ العالم , إنها المدينة التي ترتبط بجدرانها آلاف القصص التي وردت بالإنجيل والتي يلتصق بها كل تراث ديننا المسيحي , إنها المدينة التي تلطخت أحجارها بدماء أجدادنا الصليبيين الأول , إنها القدس هاهي أمامنا , عن عاطفة غريبة جياشة وحماس ديني فائق يمتلك روح كل حاج وهذا يجعله علي شفا التعصب , وقد بدا ذلك مفهوما لي لأن القدس ظلت لعدة قرون وستظل للأبد مركزا لأشد أنواع التعصب , فعقيدتنا وكل التراث الذي تشربناه منذ عهد الطفولة , وقد انبثق الآن ليتخذ له شكلا ووجودا يحيط به عالم من الغموض والجهامة يحمل لعنة تطحن كل من يعيش في هذة المدينة وتسحقه سحقا الي الأبد , فأي شخص يعيش فترة طويلة في القدس يدخل منطقة من الهوس الغامض تسيطر علي عقله سيطرة دائمة , تلك هي المشاعر التي جعلت الصليبيين يوجهون كل طاقاتهم اليائسة لكل الحروب الدينية مع ان هذا كان يتعارض مع كل مصالحهم أو حياتهم ."

ويتحدث الأمير رودلف عن واقعة شاهدها بعينيه تدل علي تزييف التاريخ في تلك المنطقة , فقد عثر علي مخطوط لكتاب تراتيل بروتستنتي ودعوات للأمير وليم , ويعتقد الأمير أن الحيوانات أحضرته الي هذا المكان من أحد الجحور التي تحفرها الحيوانات لمساكنها , كان الكتاب بوجه عام بحالة جيدة من الداخل والخارج وعليه بعض بقع الدماء . ويقول الأمير :

- " الله وحده يعلم كيف وصل هذا الكتاب الأوروبي لهذا الموضع الموحش وكيف فقده صاحبه . ربما كانت عظام صاحبه قد تحللت في مكان قريب من هذا الدغل الكثيف " .

المكان الذي عثر فيه الأمير علي هذا الكتاب يقع في كريق اختراقه لسهل البساتين في طريقه الي أريحا , وقتها كان الأمير ورفاقه يبحثون عن حيوانات شبيهة بالقطط تختبئ في جحورها . وكانت معه مجموعة من الكلاب من فصيلة الدشهند هي التي تعقبت تلك الحيوانات لإخراجها من جحورها . فأخرجت من تلك الجحور هذا الكتاب الغريب . والمعروف ان أفراد طائفة البروتستانت وغيرهم من أصحاب المذاهب المسيحية الحديثة عدا الأرثوذكس والكاثوليك محرومون من دخول الأماكن المقدسة المسيحية في بيت المقدس والأماكن المقدسة الأخرى . 

تشكك الأمير رودلف في الكتاب الذي عثر عليه أو الأثر الديني كما يسميه وطريقة دسه في المحجر المهجور في الأماكن المقدسة . ربما كان دسه بهذة الطريقة مقصودا , ومن المحتمل أنه بعد عشرات السنين يأتي من يدعي أتباع الطائفة بالحقوق التاريخية لهم في تلك المناطق المحرومون من دخولها . الآثار دائما لا تكذب , ولكنها ربما كانت شاهدة علي وقائع التزوير في التاريخ .

وعن ليلته الأخيرة في الباخرة التي حملته من الشرق يقول الأمير :

- " لقد مضي الليل سريعا , فقد كنا أثناء الليل نحلم بالبدو علي خيولهم , وبالمآذن الرشيقة , والجبال الشامخة , والصحراء الشاسعة , والنيل المقدس وغابات النخيل المتموجة , وأشجار الجميز , وأسرار معابد إيزيس , ولكن أحلامنا السعيدة سرعان ما بددها الواقع , استقبلنا ريح الشمال القارصة والثلج , وفي فيينا كانت السحب كثيفة تحجب السماء . إعترت المسافرين قشعريرة , إنه مناخ الشمال الأوروبي البارد الكئيب , انتهت الرحلة , وتفرق جمعنا لكن أفكارنا ظلت مرتبطة إرتباطا لا فكاك منه بالشرق , تحية لك يا هذا الشرق الذهبي العظيم "  .