النهار
جريدة النهار المصرية

مقالات

تـاكـــــســي

-
مستر خالد .. أو هكذا يحب أن يجعل الناس ينادونه ؛ يجوب شوارع القاهرة بالتاكسي الذي لا يزال يسدد أقساطه والذي يؤرقه توفير قسطه الشهري .. وتوفير مطالبه المالية من وظيفته المسائية عليه ، حيث يعمل صباحاً بأحد مراكز الترجمة عدا أيام الجمع والإجازات .كغيره من المصريين يؤرقه كيفية سداد الجمعيات التي ورط نفسه فيها ليدفع المقدم لمشروعه هذا والذي استقر عليه بعد العمل في عدة وظائف والدخول في عدة مشاريع - فشل أغلبها - حيث لا يتمتع بعقلية تجارية كما يرى .مستر خالد .. دراسات عليا في الترجمة ، كان يأمل الحصول على درجة علمية أكبر ولا يزال يراوده الحلم ولكن ربما بعد انتهائه من تسديد أقساطه وجمعياته وحينها سيحقق حلمه المرجئ سيفتتح مكتبه الخاص ويترك التاكسي .خالد واحد من أبناء الطبقة الوسطى المصرية الذين يقاومون نحتهم ويأملون بالبقاء مستورين بعد أن تبدد حلمهم في اللحاق بالطبقة الأعلى ، صباحاً هو مستر خالد المترجم بمركز الترجمة الشهير والذي يقدم خدمته المعتمدة ، ومساءاً وبكل بساطة هو الاسطى خالد ولكنه لا يحب أن يعترف بذلك ؛ ربما لهذا يحرص على توضيح تلك النقطة لأغلب زبائنه ممن يعطيهم كـارتـاً بإسمه مطبوعاً علي أحد وجهيه كلمة تاكسي ومكتوباً على وجهه الآخر مستر خالد ورقم تليفونه المحمول ، مبدياً استعداده لتوصيلهم أينما رغبوا ولكن بالتنسيق معه قبلها تليفونياً .كل هذه المعلومات تطوع مستر خالد بالإدلاء بها شخصياً أثناء دردشتنا معاً بعد أن أقلّـني بسيارته الأجرة محاولين عبور ميدان التحرير نهار جمعة لا أذكر عنوان مليونيتها لكثرتهن ..كان علينا أن نخترق الميدان للوصول لشارع باب اللوق لكن المتاريس الحديدية بجوار مقر وزارة الخارجية القديم عاقت انسياب طريقنا ؛ مما حدا بمستر خالد للتفكير كيف سنتجاوز الميدان ..عن نفسي كنت أثق أن تلك العقبة سيتجاوزها خالد بخبرته بشوارع القاهرة ووسط المدينة التي استشفها من حديثه ، وبمعرفته الشديدة وثقته التي تنضح منه ومن معرفته بالطرق البديلة وخياله لوضع سيناريوهاته المحتملة للوصول لوجهتنا المنشودة .. بيد أنه حين تطرق حوارنا لموضوع الثورة تبددت ثقة مستر خالد التي كانت تقطر من حديثه وفرغ جرابه من الحيل والتوافيق التي يخيل لك أنه سيدها ، ويطرق رأسه صامتاً شارداً محاولاً الإيحاء لك بتعلق عينيه بالطريق ..هناك غير خالد من أبناء الطبقة الوسطى ممن يرون أن المضاربة في البورصة المصرية بمدخراتهم الصغيرة لم يعد هو التاكسي الذى سيقلهم للطبقة الأعلى ، كثيرين من أصدقائه أضيروا بمضارباتهم خاصة بعد تأثر الاقتصاد المصري بأحداث 25 يناير ، في حين كان يرى البعض ومنهم أساتذة الجامعة والأكاديميين الذين يتعامل معهم بالمكتب أن التعليم هو التاكسي الذي ربما لن يقلهم للطبقة الأعلى ولكن على الأقل سيكفل لهم الانتظار حتى ولو صف ثان في جراج هذه الطبقة .بشر الطبقة الوسطى المصرية طالما اعتبروا رمانة الميزان في المجتمع المصري ومستودع قيمه والذين قادوا إلى التغيير والتنوير في مختلف أوجه الحياة في مصر سابقاً .. يتأسَّـى على حالهم خالد لأنهم لم يكونوا شرارة تفجير الثورة ، يحيلك خالد بذاكرتك للقاء وائل غنيم مع منى الشاذلي حين بكى بين يديها مدافعاً عن نفسه ونافياً أي إِغــراض لديه فيما بذله من جهاد إلكتروني غير حبه لوطنه .. ويتذكر مستر خالد كيف أخبرها أنه مستغنٍ .. لا يريد أي نفع مادي ، ومذكراً إياها بما لديه من فيلا في الامارات ووظيفة مرموقة وزوجة أمريكية ..يتأسى خالد على حاله ليس حسداً على وائل ولكنه ربما كان يتمنى أن يملك من الأمان الإقتصادي وهامش الوقت المتاح للعمل العام والتغيير والأهــم من ذلك الخيال والقدرة على الحلم بدلاً من أن يظل يلهث وراء لقمة العيش أو أن يستهلك نفسه أو يُـستنفذ فكراً وصحة ً للوفاء باحتياجات أسرته الضرورية ..جزرة ومدلاة أمامه وعليه أن يسعى للوصول لها .. لذا كان من الطبيعي ألا يشارك في ثورة ، وألا يفجرها أبناء طبقته وإن تمنَّـى ذلك ، نعم ساندت الطبقة المتوسطة على ضئالتها وسائر طبقات المجتمع نداء التحرير لكنها لم تكن الباعث أو المحرك .. كانت استجابة لفعل مهما قيل عن شباب الائتلافات والحركات .يرى خالد أنه لا وقت للثورة أو المشاركة فيها لمواطن جُـلَّ همه توفير الحد الدنى من كل شيء لأسرته .. ويكفيه أنه شارك في الاستفتاء على التعديلات الدستورية وأنه ينوي المشاركة في الانتخابات التشريعية ، وإن شابه بعض الشك تجاه مرشحي الرئاسة الحاليين ..تتوالى اشارات الأيادي محاولةً إيقاف سائق التاكسي للركوب معه .. ويتجاهلها مستر خالد احتراماً وحياءً من زبونته الراكبة معه حتى لو كانوا في طريقنا .. مبرر خالد في ذلك أن كل شيء آت ولا داعي للاستعجال ما دام في انتظار وجهة لا يعلمها مسبقاً يفرضها عليه الزبون القادم .