جريدة النهار المصرية

مقالات

الله يغفر أما الشعب فـ ” لا ”

شعبان خليفة
بقلم : شعبان خليفة -

 

مأساة ، أو قصة حياة ابراهيم الهلباوى ، تجسد العنوان أعلاه ، فقد كان الرجل يملأ الأسماع والأبصار ، يصول ويجول فى ساحات القضاء ، يحصل على البراءة بطرق هلباوية تفرد بها ، وعلى الإدانة أن اراد ، تُروى عنه حكايات كالأساطير لا تخلو من الطرائف منها أنه وقف يترافع فى المحكمة عن شخص شج رأس أخر فلما نادى عليه القاضى اصطنع أنه نائم ...فقال القاضى جرى لك أيه يا استاذ ابراهيم ؟ فاعتذر عن نومه المصطنع ثم قال للقاضى صلى على النبى ياسيادة القاضى فقال القاضى : عليه الصلاة والسلام ..فقال الهلباوى يا معالى المستشار قاضى اليمين لم يصل على النبى فقال قاضى اليمين بغضب عليه الصلاة والسلام ..فقال الهلباوى عليه الصلاة والسلام بس قاضى الشمال هو الأخر لم يصل على النبى صلى على النبى يامعالى المستشار فغضب قاضى الشمال منه وقال أيه يا هلباوى مش مستعد للقضية نأجلها لكن مش هنقضى الجلسة صلاة على النبى ...فابتسم الهلباوى وقال للقاضى هى دى القضية يا سيادة القاضى ...المحكمة مش مستحمله أنى اكرر عليها الصلاة على النبى ثلاث مرات طيب المتهم بشهادة الشهود ليه أيام كثيرة كل ما يمر فى الطريق عائداً لبيته يسخر المجنى عليه من عاهته التى هى قضاء الله حتى فاض به الكيل وقد خاطب أهل المجنى عليه لردعه فلم يفعلوا ..فعلام نحاسبه أذن ...المتهم أخد براءة ...وصل الأمر بالهلباوى أن من كانوا يستطييعون دفع اتعابه يهددون خصومهم " هاقتلك واجيب الهلباوى أخد براءة " ..

ظل الهلباوى هلباوى حتى وقعت جريمة " دانشوى " الشهيرة فى ١٣ يونيو ١٩٠٦،

الجريمة التى قتل فيها الإنجليز رجلاً وزوجته وأحرقوا جُرنًا وهم يصطادون الحمام، فخرج عليهم الفلاحون ساخطين متذمرين، فهرب الضابط الإنجليزى «بول» وأخذ يجرى فى الحقول ومات بعد إصابته بضربة شمس! هاج المستعمر البريطانى، وعقد محكمة بوسط القرية، لمحاكمة الفلاحين، وقد شارك فى المحاكمة ثلاثة مصريين كان مصير جميعهم أسود من قرن الخروب وهم بطرس غالى "ناظر الحقانية " " اغتاله ابراهيم الوردانى بعد ذلك  "  و فتح الله صبرى زغلول الشقيق الاصغر لسعد زغلول رئيس محكمة القاهرة والذى اشتهر باسم فتحى زغلول والذى ظل يعانى حتى موته من مشاركته فى هذه المحاكمة الظالمة ثم ممثل الإدعاء ابراهيم الهلباوى والذى قيل أنه قبل المشاركة فى هذه الجريمة لأنه حصل على اتعاب 500 جنيه ذهب لكن آخرون قالوا أنه لم يكن بحاجة للمال لكنه قبل ذلك لأنه كان يحلم أن يكون قاضياً وأخذ وعدا بتعينه قاضياً لكن تطور الاحداث اجبره على رفض المنصب مهما يكن السبب فقد اسفرت المحاكمة الظالمة عن شنق ثمانية من المصريين إلى جانب الحكم بالسجن المؤبد والجلد على آخرين ومما جاء فى مرافعة الهلباوى قوله فى وصف المصريين (هؤلاء السفلة، وأدنياء النفوس من أهالى دنشواى، قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنكليز بالعصى والنبابيت، وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنكليز بيننا خمسة وعشرون عاما، ونحن معهم في إخلاص واستقامة .......)

وبعد المحاكمة عاش الهلباوى ماساة نقمة الشعب المصرى إذا كره بعد حب حيث اضطر إلى ترك المحاماة والإختفاء فى عزبته سنوات طويلة ولم يعد لساحات المحاكم إلا للدفاع عن ابراهيم الوردانى ظناً منه أن ذلك سيجعل المصريين يغفرون له ومما قاله كاعتذار وتوبه فى ساحة المحكمة (المصريون كلهم كرهوا محاكمة دنشواى، واحتقروا كل من شارك فيها ودافع عن المحتلين الإنكليز.. ولست هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن نفسى.. ومع ذلك أستطيع أن أؤكد أن الشعب المصري يحتقر كل من يدافع عن المحتلين أو يأخذ صفهم أو يبرر جرائمهم.. وأؤكد أيضا أن مواطنينا لم يقدروا الظروف التى دفعتنى أنا وغيرى إلى ذلك.. لهذا جئت للدفاع عن الوردانى الذى قتل القاضي الذى حكم على أهالى دنشواى بالإعدام.. جئت نادما استغفر مواطنينا عما وقعت فيه من أخطاء شنيعة.. اللهم إنى استغفرك وأستغفر مواطنينا...)

ومع هذا رفض الشعب الغفران فعاد ادراجه وبعد سنوات اراد أن يعود عبر السياسة والبرلمان فكان كلما ظهر امطره المصريون بالبيض والطماطم ..حتى مات منكسراً حزيناً ملقباً بجلاد الشعب المصرى .