النهار
جريدة النهار المصرية

مقالات

سافرت العمر كله وراجع أحب «سارة»

سارة مطر
-

أتوقف عدداً من المرات وأنا أكتشف أنني أتحدث مع الآخرين بطريقة سيئة، أشهق، أبلع كل الهواء الذي يحيط بحديقة البيت، لكنه لا يكفي، أحتاج إلى هواء آخر، إذن هل عليّ أن أخرج إلى الحي الذي أسكن فيه، وأطلب من الله أن يهبني كل الهواء لكي يدخل إلى صدري، وأزفره وأنا أحاول أن أغمض عيني بهدوء. أشياء كثيرة تغيرت، أنطفأت، ما الذي يحدث لم أكن يوماً بهذا السوء؟ لا يمكن لي أن ألوم أحداً على التغير الذي يحدث بي، لا يمكن لي أن ألوم الآخرين مثلاً عن سبب تعبي الجسدي، أو عدم تناولي الماء بكثرة في الأيام الأخيرة، لا يمكن لي أن ألوم الكتب الخارجة عن الأدب التي بدأت أقرؤها من دون أن أتأثر بها، في العادة يبقى للكتاب تأثير دراماتيكي على شخصيتي، إنني في العادة أتقمص كل الشخصيات التي أقرؤها، وذلك لا يعني أنني مصابة بجنون أو عته في رأسي، كل ما هنالك أنني على الدوام أحاول أن أكتشف هويتي، مازلت حتى الآن أعيد اكتشافها يوماً بعد يوم، فأنا لا أترك الأمر للآخرين، لا أتركهم لكي يخبروني كما كتبت مرة لكي يقولوا لي إنهم يعرفونني أكثر من نفسي، إنني لا أسمح لأي أحد منهم أن يتطاول على البياض الذي ورثته، أن يزيح تلك الستارة الشفافة التي لا أرفعها إلا حينما أريد أن أتنفس وحيدة.
لكن اليوم ما الذي حدث وجعلني أشعر بحزن عارم يجتاحني، ويجعلني أفكر بأن أمنح لـ «سارة» بعضا من الوقت، لكي أعيد ترتيب المسافات بيني وبين الآخرين؟ تُرى ما الذي يدعونا أحياناً لكي نختلف مع زملائنا، أقاربنا، إخوتنا، رؤسائنا في العمل، الباعة في المحال، سائق البيت، عشاقنا، أحبتنا، لماذا نسرع الخُطى المتواطئة ضدنا وضد الحياة بمجرد الاختلاف في الدفاع عن أنفسنا، بطريقة أحياناً لا تتناسب مع كل القيم التي نحملها في دستورنا الشخصي؟ ونعتقد أنه حالما تعلو أصواتنا وتظهر قسوة مفرداتنا بأننا على حق، على صواب، أي حماقة تلك التي نعيشها؟ وأي رهان نتصور بأننا سنكسبه من هذا الشعور الذي نعيشه؟ 
لكن ما هو السبب للعراك، للخلاف؟ ما الذي يجعلنا لا نتفق مع الجميع، ويجعلنا نبغض البعض ونفكر في كراهيتهم؟ هل هو عدم تواؤم أصواتنا مع أصواتهم، أم أن هناك عدم ارتياح «كيميائي» بيننا وبينهم؟ أم أنه شعور داخلي عميق بالرفض لهم، لكننا لا نقوى على الإفصاح به؟ أو ربما أنه بسبب هذا الزمن الموحش يجعلنا في عزلة وخوف دائمين، لذا تملؤنا الكراهية أكثر من الحب، فلا عجب أن نجد من يموت في هذه الحياة، من دون أن يعرف كيف يحب! 
في السابق أعترف أنني كنت امرأة صبورة أكثر من اللازم، تعلمت أن أطأطئ رأسي للريح كي تمر، حفظت لون الصنادل التي أرتديها في البيت، والسبب أن في كل مرة يقع خلاف، وبينما أتلقى التأنيب والتعنيف لم أكن أجرؤ أن أرفع رأسي، فكنت أدقق النظر في أصابع قدميّ المختبئة في الصندل الصيفي، كنت أخجل من أن أتطلع إلى أعلى حينما يؤنبني الكبار، كنت أردد عبارات أكرهها الآن جداً: «طيب، وحاضر، وسم طال عمرك، وأنا آسفة، وأعتذر، ولن أفعلها مرة أخرى»، تعلمت أن أحفظ هذه العبارات من مربيتي السمراء «أم إبراهيم»، كانت تظن أنها بذلك تعودني على أن أكون فتاة مطيعة، ولم تكن تعلم أنني سأكبر، وسأبدأ أفكر بالتحرر من كل ما يدعوني للدخول إلى بيت الطاعة. يفترض بي بعد هذا العمر الجميل، أن أكون امرأة أكثر عقلانية، أجيد بشكل أنيق ترتيب الأفكار وتناول الأحاديث من دون عراك مع الآخرين، لكن ذلك لا يحدث معي، إنني يوماً بعد يوم، أشعر بأني لست بحاجة إلى أحد، إنني الآن أتواطأ بشكل كبير مع الحزن والعزلة، كما أنني أرفض أن يدخل أحد إلى عريني في كل صباح، أو حتى أستقبل الأصوات الصافية، مثل شعاع شمس صباحية، بدأت أرفض وجود الكثيرين، إنني أنسحب شيئاً فشيئاً من كل شيء، اخترت أن أكون لنفسي، أن أستيقظ على «سارة»، وأتناول إفطاري مع «سارة»، وأستسلم للنوم والغفوة النهارية مع «سارة» فقط، إنني  أعود مرة أخرى أتعلم كيف أحب «سارة» من دون «عقد» القبيلة ودستور أبي!
 
وغداً أظنه سيكون يوماً آخر..