محمد هلوان يكتب: داوود عبد السيد.. سينما السؤال الوجودي والبحث الأبدي عن الهوية

في الساعات الماضية، تلقى الوسط الفني والثقافي نبأ رحيل المخرج الكبير داوود عبد السيد، عن عمر ناهز 79 عامًا، بعد صراع مع المرض، ليخيم الحزن على قلوب الفنانين والمفكرين والنقاد، الذين رأوا في رحيله خسارة استثنائية لواحد من أكثر صُنّاع السينما المصرية تفردًا وعمقًا. لم يكن داوود عبد السيد مجرد مخرج موهوب، بل كان حالة إبداعية نادرة وصلت بأدوات السينما إلى أقصى درجات الكمال الفني والفلسفي، حيث تحولت أفلامه إلى فضاء مفتوح للأسئلة الوجودية، لا إلى إجابات جاهزة.

لا شك أن التكريمات والجوائز التي حصدها داوود عبد السيد عبر مسيرته تلقي بظلالها على مكانته الكبيرة، غير أن قيمته الحقيقية لا تكمن في الأوسمة بقدر ما تتجلى في أثره العميق على وعي المشاهد، وعلى مسار السينما المصرية نفسها. فعلى الرغم من تنوع أعماله شكليًا، فإنها التقت جميعًا عند نقطة جوهرية واحدة: الخروج من حدود الواقع المباشر إلى فضاء الخيال الفلسفي، وطرح سؤال الهوية، سواء أكانت هوية ذاتية فردية أم هوية جمعية تمس المجتمع بأكمله.
لم تكن أفلام داوود عبد السيد جماهيرية بالمعنى التجاري الشائع، لكنها كانت أعمالًا خالدة، استطاعت، رغم قلة إنتاجه، أن تحجز لنفسها مكانًا متقدمًا في تاريخ السينما المصرية. ويكفي أن ثلاثة من أفلامه: «الكيت كات» و«أرض الخوف» و«رسائل البحر»، جاءت ضمن قائمة أعظم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهو إنجاز يعكس عمق تجربته، لا كثافتها العددية.
امتلك داوود عبد السيد قدرة نادرة على كتابة القصة وصياغة السيناريو، ثم تحويلهما إلى صورة سينمائية متكاملة، تُنفذ كما تخيلها تمامًا، في حبكة درامية شديدة التماسك، لا تترك تفصيلة دون دلالة. فالفكرة لديه لم تكن تُروى فقط، بل تُرى وتُحس وتُعاش.

أزمة الهوية في «أرض الخوف»
يُعد فيلم «أرض الخوف» واحدًا من أكثر أعمال داوود عبد السيد تعبيرًا عن التشكيك الوجودي وأزمة الهوية. فعلى الرغم من أن السطح الدرامي للفيلم يدور حول عالم تجارة المخدرات، فإن جوهر الحكاية يكمن في داخل البطل نفسه. لا نواجه في هذا الفيلم خصمًا تقليديًا واحدًا، بل نجد أن الخصم الأول هو أزمة الهوية التي تعصف بالبطل، وتصارعه الداخلي حول جدوى ما يفعله، بينما يتمثل الخصم الثاني في الجهاز الذي ألقاه في المهمة ثم تخلى عنه، ليُترك معلقًا بين كونه ضابطًا يؤدي واجبًا وكونه مجرمًا يُطارد.
يتجسد الصراع هنا في ماهية النفس الإنسانية، وحدود الغفران، والشعور بالذنب عن أفعال «مغفورة» ظاهريًا لكنها تنهش الروح من الداخل. ويطرح الفيلم أسئلة عميقة حول التماهي مع الواقع بحسنه وقبحه، وحول قدرة الإنسان على النجاة من ذاته. ويبقى السؤال المركزي الذي يطرحه البطل على لسانه، وكأنه صدى لصوت المؤلف نفسه: هل يمكن العودة إلى «جنة» ما بعد السقوط؟ أم أن الشوق الدائم هو للعودة إلى أرض الخوف نفسها، باعتبارها الحالة التي تمنح المعنى، حتى وإن كانت مؤلمة؟

«الكيت كات» وكسر حصار الذات
يحمل فيلم «الكيت كات» منذ عنوانه مفارقة فلسفية لافتة؛ إذ يحمل اسم منطقة لا يدور الفيلم حولها بقدر ما يدور حول شخصية واحدة، تصبح بدورها مرآة لمكان كامل. كيف يمكن لشخص واحد أن يُجسد حيًّا بأكمله؟ سؤال يفتحه داوود عبد السيد دون أن يغلقه، تاركًا الإجابة لتأويل المتلقي، كلٌ حسب تجربته ووعيه، دون فرض معنى نهائي، في تطبيق عملي لما طرحه رولان بارت في مفهوم «موت المؤلف».
وكأن داوود عبد السيد يترجم نظريات فلسفة الفن والسينما إلى لغة الصورة، بحرفية شديدة، فنشاهد على الشاشة ما يشبه مقاطع من «الكوميديا الإلهية» لدانتي، ولكن داخل واقع يومي بسيط. بطل الفيلم ضرير، لكنه يمتلك رؤية أعمق من المبصرين، يرى بالعقل والإحساس، لا بالعين. وقد قارنه كثيرون بشخصيات مسرحية مشابهة، مثل بطل لينين الرملي في «وجهة نظر»، غير أن السينما منحت داوود مساحة أوسع للتعبير، من خلال الكاميرا والمونتاج والموسيقى، التي صاغت الإحساس الداخلي للشخصية بدقة متناهية.
تحولت شخصية الضرير، التي جسدها محمود عبد العزيز ببراعة استثنائية، إلى نموذج أيقوني، سعى كثيرون لاحقًا إلى تقليده، لكنها ظلت عصية على الاستنساخ، لأنها كُتبت وصُممت نفسيًا ودراميًا بعناية شديدة، من المظهر الخارجي إلى أعمق مستويات الشعور الداخلي.

«أرض الأحلام».. السجن الذي نصنعه بأنفسنا
في فيلم «أرض الأحلام»، يتناول داوود عبد السيد شكلًا آخر من أشكال الخوف: الخوف من العيش ذاته. فعلى الرغم من أن الأحداث تبدو متحركة ومتجددة، وتنتهي بمشهد صادم يترك أثرًا حزينًا في نفس المشاهد، فإن الفيلم يحمل طرحًا فلسفيًا عميقًا حول البحث عن السعادة الذاتية، لا السعادة بالإنابة عن الآخرين.
تجسد البطلة نموذج الإنسان الذي يهرب إلى الماضي، ويتمسك بالروتين والالتزام المفرط، خوفًا من خوض تجارب جديدة، وكأن السكون أمان. غير أن الفيلم يذكّرنا بأن الحياة في جوهرها تجربة، وأن الخوف من خوضها هو في حد ذاته شكل من أشكال الفقد. تتوزع الشخصيات هنا كرموز لحالات شعورية وإنسانية متعددة، لكن الغلبة النهائية، في رؤية داوود، تظل دائمًا للحياة، رغم قسوتها.

فلسفة داوود الفنية وشركاء الرؤية
لم تكن إبداعات داوود عبد السيد لتكتمل دون شراكة واعية مع مبدعين يفهمون عالمه، وعلى رأسهم الموسيقار راجح داوود، الذي شكّلت موسيقاه جزءًا أصيلًا من البناء الدرامي لأفلامه، لا مجرد خلفية صوتية. فالموسيقى عند داوود كانت لغة موازية للصورة، تنقل الإحساس كما أراده تمامًا.
كما أعاد تقديم ممثليه في صور غير نمطية: محمود عبد العزيز في «الكيت كات»، أحمد زكي في «أرض الخوف»، وفاتن حمامة في «أرض الأحلام»، حيث كشف عن وجوه داخلية لم تُستكشف من قبل.
تتسم أعمال داوود عبد السيد بازدواجية المعنى؛ معنى مباشر ظاهر، وآخر كامن خلف الأحداث، لا يُفهم إلا بطرح سؤال جوهري بعد انتهاء الفيلم: ماذا يريد البطل حقًا؟ أو بتعبير أدق: ما الذي يريد المؤلف الإشارة إليه دون أن ينطقه؟
لقد سعى داوود إلى التأثير في اللاوعي عبر الوعي ذاته، من خلال نماذج درامية خيالية، تحمل أفكارًا فلسفية كبرى صيغت بلغة سينمائية فريدة. وهنا يكمن جوهر إبداعه: تحويل الأسئلة الفلسفية المجردة إلى مشاهد نابضة بالحياة.
رحل داوود عبد السيد، ولم نكتفِ من فنه بعد، لكنه ترك مشروعًا سينمائيًا سيظل حيًا، وعلامة فارقة في تاريخ الإبداع المصري. لم يكن يسعى إلى تقديم إجابات، بل إلى إثارة الذهن، ودفع كل متلقٍ إلى تكوين هويته الخاصة في فهم أعماله، وتجاوزها، والاشتباك معها. وهكذا سيظل داوود عبد السيد حاضرًا، ليس فقط كمخرج، بل كمؤسس لمدرسة سينمائية وفكرية لم تعرفها السينما المصرية من قبل.

