الاعلامي الفلسطيني زياد حلبي : عرفات ..الرجلُ الذي كان ملامحَ وطن !

يقول الاعلامي الفلسطيني زياد حلبي في الذكرى الحادية والعشرين لرحيل ياسر عرفات، يعود الرجل في الذاكرة لا بوصفه أسطورةً جامدة، بل ككائنٍ من لحمٍ وتاريخٍ وسياسة، له ما له وعليه ما عليه ،تشكّل من تناقضاتٍ حادّة: الثورة والمنفى، الميدان والمفاوضة، الحلم والانكسار.
وُلد في القدس عام 1929، ونشأ في القاهرة حيث درس الهندسة وتخرّج مهندساً للطرق والجسور، لكنه سرعان ما اختار أن يبني طريقاً آخر نحو وطنٍ لم يُرسم بعد. أسّس مع رفاقه حركة “فتح” في نهاية الخمسينيات، ليبدأ فصل النضال الفلسطيني المسلّح والسياسي معاً، متنقلاً بين عمان وبيروت وتونس في مرور ثقيل ومعقد في معظمها ، إلى أن عاد إلى غزة ورام الله، حاملاً مشروع الدولة التي لم تولد.
كان ياسر عرفات، كما وصفه كريم بقرادوني في كتابه «لعنة وطن»، رجلاً “ينتمي إلى جيلٍ من القادة يصعب تصنيفه في خانةٍ واحدة؛ خليطٌ من الواقعية والغرابة، من الحذر الدبلوماسي والاندفاع الثوري، ومن الإيمان بالقضية إلى حدّ الهوس بها.”
إنه “قائدٌ يختزن في شخصه التناقض الفلسطيني كله: يجمع بين عقلية المقاتل وسلوك الزعيم، بين بدويٍّ في الخيمة ودبلوماسيٍّ في أروقة الأمم المتحدة.”
كانت شخصيته أكثر تعقيداً مما تبدو عليه في الصورة. يعرف متى يصمت ومتى يبتسم، وكيف يُدير الحوارات كما يُدير المعارك. في المقابلات التلفزيونية التي أجريتها معه( أجريت المقابلة الأخيرة قبل رحيله، على الهواء مباشرة )، كنت أرى فيه قدرة نادرة على التحكم في إيقاع الحديث. كان يلتقط ما يريد من السؤال، ويحوّله إلى رسالة سياسية دقيقة. لا يردّ بعفوية، بل كما لو أن كل كلمة محسوبة مسبقاً. خلف بساطته الظاهرة كان ذكاء لامعاً وذاكرة حادة ووعي عميق بأن الكاميرا ليست عدواً بل منبراً.
عرفات لم يكن زعيماً بالمعنى التقليدي فقط، بل ظاهرة سياسية وإنسانية صنعت وعياً جمعياً بأكمله. أحبه من رأى فيه تجسيداً لفلسطين نفسها، وانتقده من رأى فيه مهندس تنازلاتها. لكنه، “ظلّ اللاعب الأبرز على رقعةٍ يتبدّل فيها كل شيء إلا موقعه.”
كوفيته البيضاء والسوداء، المنشّاة التي رصّها بعناية فوق رأسه، لم تكن مجرد غطاء، بل راية. كان يضبطها كما يضبط إيقاع خطابه، مدركاً أن الرموز في السياسة لا تقلّ وزناً عن البنادق. صورة عرفات بالكوفية لم تكن ترويجاً، بل انعكاساً لطبيعة رجلٍ فهم مبكراً أن المعركة على الذاكرة لا تقلّ عن المعركة على الأرض.
أصاب وأخطأ، انتصر وهزم ، لكنه بقي مؤثراً حتى بعد موته في عام 2004. رحل في مرحلةٍ لم تكتمل، تاركاً وراءه إرثاً مثقلاً بالأسئلة أكثر مما هو بالإجابات. ومع ذلك، فإن سيرته لا تزال تمتدّ كخيطٍ بين زمنين: زمن الثورة وزمن الدولة التي لم تولد بعد.
وربما تختصر جملته الشهيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 سيرته كلها:
“جئتكم أحمل غصن الزيتون بيد، وبندقية الثائر باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.”
ومنذ ذلك الوقت، والزيتون يُقتلع من الأرض كما تُقتلع الذاكرة من الوعي، لكن ظلاله ما زالت تمتدّ في كل بيتٍ فلسطيني، تذكّر بأن الغصن لم يكن رمز سلامٍ عابر، بل وعداً مؤجلاً لم يكتمل بعد!!

