النهار
جريدة النهار المصرية

عربي ودولي

روسيا تنهى اتفاقية البلوتونيوم..هل يعود العالم للسباق النووي مجدداً؟

الرئيس الروسي بوتين
هالة عبد الهادي -

في خطوة تُعيد العالم إلى أجواء الحرب الباردة، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أكتوبر 2025 قانونًا يُنهي رسميًا مشاركة روسيا في اتفاقية إدارة البلوتونيوم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الاتفاق الذي كان يُعتبر آخر رمز للتعاون النووي بين القوتين العظميين. هذا القرار التاريخي لا يقتصر على إنهاء معاهدة فنية بقدر ما يُعبّر عن تحوّل إستراتيجي عميق في ميزان القوى، وعن انزلاق محتمل نحو مرحلة جديدة من سباق التسلّح النووي.

ما هي اتفاقية البلوتونيوم؟ جذور التعاون النووي بين موسكو وواشنطن

تعود جذور هذه الاتفاقية إلى عام 2000، حين أبرمت موسكو وواشنطن اتفاق "إدارة البلوتونيوم" (PMDA) كأحد أبرز إنجازات التعاون في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. كانت الفكرة بسيطة في ظاهرها لكنها معقّدة في مضمونها: التخلص الآمن من 34 طنًا من البلوتونيوم العسكري لدى كل طرف، وهي كمية تكفي لصناعة آلاف الرؤوس النووية، عبر تحويلها إلى وقود للمفاعلات المدنية، بما يضمن عدم استخدامها مجددًا في تصنيع الأسلحة. دخل الاتفاق حيّز التنفيذ عام 2011، لكنه ظلّ يواجه عراقيل فنية وسياسية متكررة، إلى أن قرّرت موسكو تجميده في عام 2016، معتبرة أن واشنطن لم تلتزم بالطرق المتفق عليها للتخلص من البلوتونيوم.

ومع توقيع بوتين الأخير، تُطوى فعليًا صفحة امتدت لأكثر من عقدين من التعاون النووي بين القوتين. الكرملين برّر هذه الخطوة بأن "الظروف الدولية تغيّرت"، مشيرًا إلى تصاعد "التهديدات الأمريكية" والتوسع الشرقي لحلف شمال الأطلسي، إضافة إلى ما وصفته موسكو بسياسات واشنطن العدائية في أوكرانيا. لكن خلف هذا التبرير تكمن رسائل أعمق: فقرار بوتين يأتي في لحظة يتصاعد فيها التوتر الجيوسياسي إلى أقصاه، وهو بمثابة إعلان بأن روسيا لم تعد ترى في الولايات المتحدة شريكًا موثوقًا في قضايا الأمن الاستراتيجي.

الانسحاب الروسي يضرب في عمق منظومة الحد من الانتشار النووي التي شُيّدت عبر عقود من المفاوضات الشاقة. فالمعادلة التي صمدت منذ مطلع الألفية، والقائمة على الثقة المتبادلة بين موسكو وواشنطن في تقليص الترسانات النووية، باتت الآن على حافة الانهيار. وفقًا لتقديرات مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن الخطوة الروسية تفتح الباب أمام مرحلة "انعدام الثقة النووي"، حيث يُحتمل أن تعود القوى الكبرى إلى سياسات الردع المتبادل التي سادت في القرن العشرين.

ويحذّر خبراء نزع السلاح من أن استمرار روسيا في تخزين كميات البلوتونيوم التي كان من المفترض تدميرها، سيُعزز قدرتها على تحديث ترسانتها النووية في المستقبل. كما يخشون أن تُحفّز هذه الخطوة دولًا أخرى على تطوير برامجها النووية بدعوى أن القوتين الأعظم لم تعودا تلتزمان بالاتفاقيات الدولية، ما يهدد بانهيار شامل للنظام العالمي القائم على ضبط الأسلحة. ويُضاف إلى ذلك أن عودة "لغة البلوتونيوم" إلى طاولة السياسة العالمية تُعيد فتح ملف الردع النووي كأداة ضغط، بعد أن كان لسنوات أداة استقرار نسبي.

موقف واشنطن: انسحاب موسكو "ضربة خطيرة" تهدد نظام نزع السلاح العالمي

في المقابل، أعربت الولايات المتحدة عن "الأسف العميق" حيال القرار الروسي، ووصفت الخطوة بأنها "ضربة خطيرة" لجهود نزع السلاح، مؤكدة أن موسكو اختارت الطريق الخطأ في لحظة حساسة من تاريخ الأمن العالمي. غير أن هذه اللهجة الدبلوماسية لم تُخفِ قلق واشنطن الحقيقي من أن روسيا قد تستخدم هذا الملف كورقة مساومة في مواجهة العقوبات الغربية والحصار الاقتصادي والعسكري المفروض عليها بسبب حرب أوكرانيا.

ويرى بعض المحللين أن هذا الانسحاب يُعيد ترتيب معادلات القوة في النظام الدولي. فروسيا اليوم ليست تلك الدولة المنكفئة التي خرجت من انهيار الاتحاد السوفييتي، بل قوة نووية وطاقوية تحاول إعادة تعريف موقعها العالمي، مدعومة بعلاقات متنامية مع الصين وإيران وكوريا الشمالية. وتأتي هذه الخطوة في سياق إستراتيجية أوسع تسعى موسكو من خلالها إلى التحرر من قيود مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وإعادة فرض معادلة جديدة قوامها الردع والمناورة النووية بدلاً من الثقة والالتزام المتبادل.

القرار الروسي أيضًا يضع النظام الدولي لمراقبة الانتشار النووي أمام اختبار قاسٍ. فمعاهدة عدم الانتشار (NPT) واتفاقيات الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) تعتمد على مثال التعاون الأمريكي الروسي لضمان التوازن بين الردع والضبط. الآن، ومع انهيار هذا المثال، يبدو أن بقية الدول ستفقد الحافز للالتزام بالقيود ذاتها، خاصة في مناطق النزاع الساخنة مثل الشرق الأوسط وآسيا. وهذا يعني أن موجة جديدة من سباقات التسلح قد تندلع على مستويات مختلفة، سواء عبر تطوير القدرات النووية، أو بناء أنظمة صاروخية متقدمة، أو تعزيز التحالفات العسكرية ذات الطابع النووي.

قال الخبير في شؤون نزع السلاح النووي والباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي مارك هيبز،: "إن قرار موسكو لا يتعلق فقط بالبلوتونيوم، بل هو إعلان واضح بأن روسيا لم تعد ترى في واشنطن شريكًا يمكن الوثوق به في أي اتفاق للحد من التسلّح"، مشيرًا إلى أن العالم يعيش لحظة مفصلية قد تعيدنا إلى منطق الردع النووي القديم. هذه القراءة تتقاطع مع تقديرات مؤسسات بحثية أمريكية وأوروبية تعتبر أن السنوات المقبلة ستشهد عودة تدريجية إلى سباق تطوير الرؤوس النووية والصواريخ فرط الصوتية، في ظل انهيار معظم آليات الحوار النووي بين الشرق والغرب.

أما في العالم العربي، فإن الانعكاسات ليست بعيدة. فكل تصعيد نووي بين القوى الكبرى ينعكس توترًا إضافيًا في الشرق الأوسط، ويُضعف الجهود الدولية لإبقاء المنطقة خالية من الأسلحة النووية. كما أن تراجع الالتزام من جانب الدول العظمى يُعطي مبررًا لبعض الدول لإعادة النظر في مواقفها النووية، سواء لأغراض دفاعية أو سياسية. ومع تزايد الاضطرابات الإقليمية، فإن خطر التسرب النووي أو سباق التسلّح غير المعلن يصبح احتمالًا واقعيًا أكثر من أي وقت مضى.

توقيت القرار الروسي يحمل دلالة لا يمكن تجاهلها. فبوتين اختار هذه الخطوة بينما تشتدّ المواجهة مع الغرب في أوكرانيا، وتتسع العقوبات الاقتصادية، وتتصاعد المنافسة مع واشنطن في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وكأن موسكو تُرسل رسالة إلى العالم مفادها أن "القيود القديمة لم تعد تُلزمنا"، وأن منطق القوة هو القاعدة الجديدة في العلاقات الدولية. في المقابل، تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم منظومة الردع النووي، خصوصًا في ظل سباق التكنولوجيا العسكرية مع الصين، التي باتت بدورها لاعبًا ثالثًا في معادلة الردع العالمي.

هكذا، ومع طيّ صفحة التعاون النووي بين موسكو وواشنطن، يبدو أن العالم يدخل مرحلة أكثر غموضًا وخطورة. فغياب الثقة بين القوتين النوويتين الأكبر يجعل من أي أزمة مقبلة، مهما كانت محدودة، مرشحة للتصعيد إلى مستويات غير مسبوقة. وربما تكون هذه الخطوة الروسية تذكيرًا قاسيًا بأن السلام النووي لم يكن يومًا مضمونًا، وأن القرن الحادي والعشرين، رغم وعوده بالتكنولوجيا والتقدم، قد يشهد عودة شبح الردع النووي بكل ثقله ورعبه.