قمة بروكسل بين مصر والاتحاد الأوروبي.. شراكة المصالح أم اختبار الثقة؟

تشهد العلاقات بين جمهورية مصر العربية والـ الاتحاد الأوروبي ما يُعدّ مرحلةً حرجةً وجديدة من التطوّر، مع انعقاد القمة الأولى بين الجانبين في بروكسل بتاريخ 22 أكتوبر 2025، والتي تُعدّ خطوة تاريخية تهدف إلى تنفيذ “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” التي تم الاتفاق عليها في أوائل عام 2024.
تأتي هذه القمة في وقت حساس على الصعيدين السياسي والاقتصادي: فالاتحاد الأوروبي يسعى لتعزيز الاستقرار الأمني والاقتصادي في منطقة جنوب المتوسط، بينما مصر تسعى لجذب استثمارات أوروبية ودعم مالي وتقني لمواجهة التحديات الاقتصادية الداخلية، من بينها الضغوط المالية، توفير الطاقة، وتحسين مناخ الأعمال.
وقد أطلق الجانبان حزمة مالية ضخمة تصل إلى حوالي 7.4 مليار يورو للفترة 2024-2027 مخصَّصة لمصر لدعم مشروعات الطاقة، البنية التحتية، الإصلاح الاقتصادي، والهجرة غير النظامية.
لكن هذه القمة لا تُعدّ مجرد احتفال دبلوماسي، بل تمثّل اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة الطرفين على تحويل الشراكة المكتوبة على الورق إلى نتائج ملموسة على الأرض، خصوصًا في ظلّ تباينات في الرؤى حول قضايا مثل حقوق الإنسان، الإصلاح الاقتصادي، وإدارة الهجرة. ومع ذلك، يرى الأوروبيون في مصر “ركيزة استقرار إقليميًّا” وبوابة الجنوب نحو المتوسط، مما يجعل هذه الشراكة أكثر من تعاون اقتصادي إنها تحالف استراتيجي طويل الأمد يعيد رسم علاقة أوروبا بجنوب المتوسط.
الأبعاد التي تجعل الأمر مهمًّا الآن
تكتسب القمة الأولى بين مصر والاتحاد الأوروبي، المنعقدة في بروكسل في 22 أكتوبر 2025، أهمية استثنائية في هذا التوقيت، إذ تُعدّ مصر ثاني دولة عربية يُعقد معها هذا النوع من القمم بعد ترقية الشراكة إلى مستوى شامل، ما يعكس تطور العلاقات بين الجانبين نحو مرحلة أكثر عمقًا واستراتيجية. وتأتي القمة متزامنة مع إعلان الاتحاد الأوروبي عن حزمة مالية ضخمة تبلغ نحو 7.4 مليار يورو، وهي من أكبر الحزم المقدَّمة لدولة غير عضو، ما يؤكد التزام أوروبا بتحفيز الاقتصاد المصري ودعم استقرار المنطقة. كما أن الموقع الجغرافي لمصر يمنح هذه الشراكة بُعدًا استراتيجيًا مضاعفًا، فهي تمثل نقطة ارتكاز أمنية واقتصادية لأوروبا في جنوب المتوسط، وتؤدي دورًا محوريًا في ملفات الطاقة، والأمن، والهجرة، ما يجعل من التعاون معها ضرورة ملحّة في ظل التحديات الإقليمية والدولية الراهنة.
ويرى الخبير في العلاقات الأوروبية المتوسطية الدكتور نضال شقير، في تصريحات له، أن:"القاهرة تمثل اليوم حجر الزاوية في معادلة الأمن والتنمية الأوروبية في الجنوب، وأي إخفاق في دعم مصر اقتصاديًا وسياسيًا ستكون له تبعات مباشرة على استقرار القارة الأوروبية بأكملها".
ما الذي يطمح الطرفان إليه؟
من منظور مصري، تسعى القاهرة من خلال هذه الشراكة إلى جذب استثمارات أوروبية مباشرة تسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وتقليل العجز المالي، إلى جانب استثمار موقعها الجغرافي والتاريخي المتميز لتحويله إلى محور للتجارة والطاقة والخدمات اللوجستية ضمن شبكة التعاون بين جنوب وشمال المتوسط. كما تطمح مصر إلى ترسيخ مكانتها كلاعب إقليمي محوري ومركز للاستقرار في ظلّ الأزمات المتصاعدة في أوكرانيا والشرق الأوسط وأفريقيا، بما يعزز دورها كطرف فاعل في حفظ الأمن الإقليمي والدولي. أما من الجانب الأوروبي، فتتمثل الأهداف في ضمان استقرار منطقة جنوب المتوسط والحد من تدفّق الهجرة غير النظامية نحو القارة الأوروبية، إضافة إلى بناء شراكة قوية مع مصر في مجالات الطاقة المتجددة والبنية التحتية لدعم الانتقال الطاقي الأوروبي. ويرى الاتحاد الأوروبي في القاهرة شريكًا استراتيجيًا يتمتع بموقع جغرافي ولوجستي فريد يجعل منها جسرًا طبيعيًا يربط أوروبا بإفريقيا والشرق الأوسط، ما يعزز المصالح المشتركة للطرفين على المدى الطويل.
التحديات والعقبات التي تواجه الشراكة
على الرغم من الطموح الكبير الذي يميز الشراكة بين مصر والاتحاد الأوروبي، فإن الطريق نحو تحقيق أهدافها يواجه مجموعة من التحديات الجوهرية التي قد تُبطئ من وتيرة التقدم. يأتي في مقدمتها تباين وجهات النظر بين الجانبين حول قضايا حقوق الإنسان والإصلاح السياسي، حيث ترى بعض الدول الأوروبية أن توسيع الشراكة يجب أن يرتبط بإصلاحات في مجالات الحوكمة والمشاركة السياسية، بينما تؤكد القاهرة أن الأولوية يجب أن تكون للاستقرار والأمن باعتبارهما الأساس لأي عملية تنموية مستدامة.
كما يبرز ملف الهجرة غير النظامية كأحد أكثر الملفات حساسية في العلاقات الثنائية، إذ يضعه الاتحاد الأوروبي ضمن أولوياته القصوى، في حين تجد مصر نفسها مطالبة بلعب دور الوسيط والمسؤول في آن واحد، ما يضع عليها عبئًا سياسيًا وأمنيًا كبيرًا.
ويضاف إلى ذلك تحدي تحقيق النتائج الملموسة، فنجاح الحزمة المالية المعلنة وتحويلها إلى مشروعات تنموية حقيقية يتطلب إصلاحات هيكلية عميقة في الاقتصاد المصري، وتحسين مناخ الاستثمار وتوفير تسهيلات أكبر للقطاع الخاص.
كما تواجه الشراكة معضلة التوازن بين السيادة الوطنية ومتطلبات الشراكة الأوروبية، إذ يتعين على القاهرة الحفاظ على استقلال قرارها الوطني في الوقت الذي تلتزم فيه بشروط التعاون والتنسيق مع بروكسل.
ولا يمكن إغفال المخاطر الجيوسياسية المحيطة، فالتوترات الإقليمية في الشرق الأوسط، وتقلبات الأسواق العالمية، وأزمة الطاقة المتجددة تشكل جميعها عوامل قد تؤثر على تنفيذ الاتفاقيات ومعدلات التعاون الفعلي بين الطرفين.
ما الذي تغيّره هذه الشراكة؟
إذا كُتِب لهذه الشراكة النجاح، فإنها ستُحدث تحوّلًا نوعيًا في معادلات المنطقة والعلاقات بين ضفّتي المتوسط. فمن المتوقع أن تُعزز موقع مصر كمركز إقليمي للطاقة والنقل والخدمات اللوجستية، بما يربطها بشكل مباشر بالاقتصاد الأوروبي ويجعلها أحد أهم محاور الاتصال التجاري والطاقي بين أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا. كما تفتح الشراكة آفاقًا واسعة للتعاون في مجالات التعليم والبحث العلمي والابتكار، عبر برامج مشتركة تدعم تبادل الخبرات وتنمية القدرات البشرية ضمن إطار صفقة الأبحاث والابتكار التي يروّج لها الاتحاد الأوروبي.
وإلى جانب ذلك، من شأن هذه الشراكة أن تجعل من جنوب المتوسط شريانًا اقتصاديًا واستثماريًا متكاملًا يخدم ليس فقط الدول العربية والأفريقية، بل الاتحاد الأوروبي نفسه، عبر خلق منطقة استقرار ونمو متبادل. وفي البعد الجيوسياسي، قد تسهم في إعادة رسم ميزان القوى في المنطقة، إذ يُنظر إليها كإطار يعزز النفوذ الأوروبي المصري في مواجهة محاولات بعض القوى الإقليمية الأخرى توسيع حضورها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما يجعلها اتفاقًا ذا أبعاد استراتيجية تتجاوز الاقتصاد إلى إعادة ترتيب خريطة النفوذ في المنطقة.
في المحصلة، تُعد القمة المصرية الأوروبية أكثر من مجرد حدث دبلوماسي؛ إنها لحظة اختبار حقيقية لإرادة الطرفين في بناء نموذج جديد من الشراكة المتوازنة يقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. فبينما يبحث الاتحاد الأوروبي عن عمق استراتيجي يضمن أمنه واستقراره جنوب المتوسط، تسعى مصر إلى شراكة تحقق التنمية والاستقرار وتعزز استقلال قرارها الاقتصادي والسياسي.
وإذا ما نجح الجانبان في تجاوز التحديات الراهنة وتحويل التعهدات المالية والسياسية إلى إنجازات واقعية، فإن هذه الشراكة قد تشكل نقطة تحوّل في العلاقات الأوروبية العربية، وتجعل من القاهرة محورًا أساسيًا في معادلة الأمن والتنمية عبر المتوسط.
إنها ببساطة ليست مجرد قمة بروكسل 2025، بل خطوة أولى على طريق إعادة صياغة العلاقة بين شمال وجنوب المتوسط على أسس جديدة، عنوانها: الاستقرار، التنمية، والمصالح المتبادلة.

