النهار
جريدة النهار المصرية

ثقافة

مجلة نيتشر العلمية: نقوش الجمال في ”النفود” السعودية تكشف عن خرائط مائية أنقذت القدماء من العطش

نقوش الصحراء السعودية
محمد هلوان -

تكشف اكتشافات أثرية حديثة في صحراء النفود شمال المملكة العربية السعودية عن جانب مدهش من حياة البشر الأوائل الذين عاشوا هناك قبل آلاف السنين. فقد استخدم سكان شبه الجزيرة الأوائل الصخور كخرائط مرئية لمصادر المياه، منقوشة بأشكال الإبل وغيرها من الحيوانات التي مثّلت رمزًا للحياة والازدهار في بيئة قاحلة.

السعودية

على المنحدرات الصخرية المنتشرة في النفود، ترك هؤلاء القدماء وراءهم منحوتات للإبل بأحجام طبيعية، بعضها بتفاصيل دقيقة تُظهر الفراء الشتوي أو انتفاخ العنق في موسم الشبق، بينما جاء بعضها الآخر بأسلوب كاريكاتوري مبالغ فيه. لكن على اختلاف الأساليب، كانت جميع النقوش تشير إلى مواقع المياه النادرة في الصحراء، وهو ما جعلها بمثابة دلائل جيولوجية ورمزية في آنٍ واحد.

نقوش حجرية

رغم أن نقوش الإبل في السعودية معروفة منذ عقود، وتضم منطقتا "جبة" و"الشويمس" في حائل – المدرجتان على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 2015 – بعضًا من أشهرها، فإن بعثة أثرية دولية حديثة وسّعت حدود المعرفة إلى آفاق جديدة. فقد عثر الفريق في مناطق غير مستكشفة سابقًا على أكثر من 60 لوحة صخرية تضم 176 نقشًا، تكشف عن انتشار النشاط البشري في عمق شمال الجزيرة قبل زمنٍ أطول مما كان يُعتقد.

وخلال التنقيب أسفل لوحة كبيرة تُظهر جملين أحدهما فوق الآخر، اكتشف الباحثون طبقة أثرية سليمة تحتوي على أداة من الحجر الرملي الغني بالحديد يُرجّح أنها استُخدمت في نحت النقوش نفسها. باستخدام تقنية التلألؤ المحفَّز بصريًا لتحديد آخر مرة تعرّضت فيها الرواسب للضوء، تبين أن الأداة تعود إلى نحو 12 ألف عام، أي قبل ما لا يقل عن ألفي عام من أقدم التقديرات السابقة لوجود الإنسان في المنطقة.

كما عُثر إلى جانب الأداة على رؤوس سهام صغيرة وحبة خرزية مصنوعة من صدفٍ بحري يُحتمل أن مصدره البحر الأحمر أو البحر الأبيض المتوسط، مما يشير إلى وجود شبكات تبادل أو تنقّل لمسافات بعيدة في عصور ما قبل التاريخ.

المملكة العربية السعودية

وفي دراسة نُشرت في مجلة نيتشر بتاريخ 30 سبتمبر، كتب الفريق البحثي:

"هذه هي المرة الأولى التي يُعثر فيها على أدوات من العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار في سياق مؤرخ ومرتبط بفن صخري ضخم في شبه الجزيرة العربية."

تُبرز هذه النتائج أن شبه الجزيرة، التي كانت قبل 10,000 إلى 6,000 عام أكثر خُضرةً ورطوبةً، لم تكن مجرد ممر للعابرين بل موطنًا مزدهرًا للمجتمعات البشرية. فقد كانت الأمطار الموسمية تغمر المنخفضات المعروفة باسم "البلايا"، فتتحول إلى بحيرات مؤقتة جذبت الحيوانات والبشر على حد سواء. وبمرور الوقت، أصبحت هذه البحيرات محطات على ما يسميه العلماء "ممرات المياه العذبة"، التي رسمها القدماء على الصخور عبر صور الجمال والوعول والغزلان والحمير البرية والأوروخ – وهو نوع منقرض من الأبقار البرية.

حوالي 70% من هذه النقوش تُصور الإبل، ما يعكس مكانتها كرمزٍ للحياة والقوة والصبر في الصحراء. إلا أن حجم النقوش ومواقعها يُثيران الإعجاب أكثر من مضمونها؛ فبعضها يمتد بعرض يصل إلى ثلاثة أمتار، ويقع على ارتفاعات شاهقة لا يمكن الوصول إليها اليوم إلا بالطائرات المسيرة.

وكتب الباحثون في تقريرهم:

"إن طبيعة الصخور الهشة وانحدار المنحدرات يشيران إلى أن الفنانين الأوائل خاطروا بحياتهم لنقش هذه الصور، ما يعكس أهمية رمزية وروحية كبيرة للفن الصخري لديهم."

تُعيد هذه الاكتشافات رسم المشهد التاريخي لشمال الجزيرة العربية، موضحة أن الإنسان لم يكن مجرد عابرٍ للصحراء، بل عاش فيها وتكيّف مع بيئتها وسجّل خرائطها على جدرانها الصخرية. وهكذا يصبح الفن الصخري السعودي شاهدًا على حضارة مبكرة استخدمت الجمال لا كرمز للثروة فحسب، بل كدليل على طريق الماء – مصدر الحياة الأول في قلب الصحراء.