النهار
جريدة النهار المصرية

عربي ودولي

إيران والغرب.. صراع الإرادات بين الدبلوماسية والردع، فهل طويت صفحة الاتفاقات؟

~إيران
هالة عبد الهادي -

في لحظة بدت فاصلة في مسار الملف النووي الإيراني، أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن "الحل الوحيد للأزمة هو المسار الدبلوماسي ومسار التفاوض"، مؤكدًا في الوقت ذاته أن اتفاق القاهرة لم يعد سارياً.
ورغم أن التصريح بدا في ظاهره دعوة لتهدئة التوتر، فإنه في جوهره يعكس تحوّلًا في خطاب طهران، التي تحاول الجمع بين لغة الانفتاح الدبلوماسي واستمرار الخطوات النووية الميدانية في تخصيب اليورانيوم ورفع قدراتها التقنية. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل ما زالت إيران مؤمنة فعلًا بالحل الدبلوماسي؟ أم أن المفاوضات باتت مجرد مظلة سياسية لتكريس واقع نووي يصعب التراجع عنه؟

ما وراء تصريحات عراقجي.. قراءة في التحول الإيراني

منذ سنوات، نجحت طهران في توظيف المفاوضات كأداة لإدارة الأزمة لا لحلها، فكلما اقترب الاتفاق من الحسم، عادت إلى طرح شروط جديدة. واليوم، بإعلانها انتهاء صلاحية "اتفاق القاهرة"، تُظهر إيران رغبة واضحة في إعادة تشكيل قواعد اللعبة، وفرض اتفاق جديد بشروطها.
هذا الموقف يعكس ما يراه الباحث الإيراني مصدق بور من أن بلاده "تتعامل مع الملف النووي بمنطق الشرعية القانونية، لا بمنطق الانصياع للضغوط"، معتبرًا أن الآليات الأوروبية مثل "آلية الزناد" لم تعد قائمة عمليًا منذ قرار مجلس الأمن رقم 2231، وأن روسيا والصين يمكنهما تعطيل أي محاولة لإحياء العقوبات باستخدام الفيتو.

بعبارة أخرى، تراهن طهران على توازنات القوة الجديدة داخل مجلس الأمن، وعلى مظلة روسية صينية تتيح لها المناورة في مواجهة الغرب، دون أن تخسر شرعية وجودها كطرف تفاوضي.

مأزق الاتفاقات القديمة.. نحو "اتفاق بشروط جديدة"

إلغاء اتفاق القاهرة لا يعكس فقط فشل المسار الدبلوماسي الأخير، بل يُظهر انهيار الثقة المتبادلة بين إيران والأطراف الغربية. فطهران ترى أن الغرب لم يلتزم بوعوده الاقتصادية، بينما تتهمها أوروبا وواشنطن باستخدام المفاوضات كغطاء لتسريع برنامجها النووي.

ويرى بور أن إيران اليوم تبحث عن اتفاق جديد بشروط جديدة، يقوم على مبدأ خطوة مقابل خطوة، أي أن تقدم تنازلات محددة مقابل إجراءات ملموسة من الطرف الآخر.
لكن هذا النموذج الذي يبدو براغماتيًا، يخفي في جوهره سياسة ممنهجة لكسب الوقت، تتيح لإيران تطوير برنامجها النووي دون اعتراف رسمي بانتهاك الاتفاقات السابقة.

واشنطن وأوروبا.. من الصبر إلى التصعيد

في المقابل، أظهرت التطورات الأخيرة تغيرًا ملحوظًا في المزاج الغربي تجاه طهران.فالإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب عادت لتشدد موقفها، معتبرة أن أي تفاوض جديد يجب أن يضمن صفر تخصيب وتفكيك منشآت نطنز وفوردو إذا أرادت طهران رفع العقوبات.أما أوروبا، التي ظلت لسنوات تحاول لعب دور الوسيط، فقد باتت تميل أكثر إلى الموقف الأميركي، خاصة بعد تهديدات إيرانية باستهداف باريس أو برلين في حال المشاركة بأي عمل عسكري.

هذا التحول الأوروبي عبّر عنه دبلوماسي فرنسي في بروكسل بقوله: "إيران لم تعد شريكًا يمكن الوثوق به، بل طرفًا يوظف الدبلوماسية كسلاح تفاوضي للابتزاز".ووفق تقارير غربية، بدأ الاتحاد الأوروبي فعليًا دراسة خطة تنسيق أمني مع واشنطن وتل أبيب لمواجهة أي تصعيد نووي محتمل من طهران.

الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. الشكوك تتزايد

العلاقة بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية تمرّ بأسوأ مراحلها منذ سنوات.فبينما تؤكد إيران أنها أجابت على كل استفسارات الوكالة حول المواقع المشبوهة، تتهم الأخيرة طهران بإخفاء معلومات جوهرية.
المدير العام للوكالة رفائيل غروسي كشف مؤخرًا أن "الكميات المخصبة المفقودة من إيران تُقدّر بنحو 440 كيلوغراماً، تكفي لصنع عشر قنابل نووية"، ما أثار قلقًا عميقًا داخل المؤسسات الغربية، ورفع مستوى الإنذار في الوكالة إلى الدرجة القصوى.

تكرار هذه الاتهامات عزز قناعة المجتمع الدولي بأن إيران تسعى إلى إبقاء الملف في منطقة رمادية، لا هي تتراجع، ولا هي تعلن رسميًا امتلاك السلاح، مما يجعلها في موقع تفاوضي دائم.

التحالفات الشرقية.. رهان محفوف بالمخاطر

رغم أن طهران تراهن على موسكو وبكين كحليفين استراتيجيين، فإن هذا الرهان يبدو هشًا.فالصين بدأت تشدد رقابتها على حركة النفط الإيراني، ومنعت عدة ناقلات من التحرك عبر "شبكات الظل"، حفاظًا على علاقاتها التجارية مع الغرب.أما روسيا، الغارقة في حربها في أوكرانيا، فلا تبدو مستعدة للدخول في مواجهة عسكرية دفاعًا عن إيران، مكتفية بتقديم دعم سياسي محسوب دون ضمانات أمنية حقيقية.

هذا يعني أن تحالف الشرق، الذي تراهن عليه طهران، قد يوفر مظلة دبلوماسية، لكنه لا يضمن لها حماية استراتيجية في حال قررت واشنطن وتل أبيب الانتقال من الضغط إلى الضرب.

الداخل الإيراني.. الاقتصاد يئن والدبلوماسية تناور

في الداخل، يزداد الضغط الشعبي مع تدهور العملة الإيرانية وتفاقم التضخم، فيما تحاول الحكومة تصوير المفاوضات كـ"ميدان مقاومة" لا تنازل.لكن الواقع الاقتصادي يكشف هشاشة متصاعدة، تجعل استمرار النهج النووي أكثر كلفة من أي وقت مضى.فالسياسة الإيرانية القائمة على المقاومة الاقتصادية لم تعد تقنع الشارع، بينما تتنامى الأصوات الإصلاحية المحذّرة من أن "العزلة الدبلوماسية قد تتحول إلى حصار وجودي".

من الدبلوماسية إلى شفير المواجهة

يرى الباحث العراقي المقيم في باريس، د. هلال العبيدي، أن إيران "استغلت اتفاق 2015 لتقوية أذرعها العسكرية، لا لتحسين اقتصادها"، مشيرًا إلى أن مليارات الدولارات التي تدفقت بعد الاتفاق استخدمت في تمويل الميليشيات وتطوير الصواريخ والطائرات المسيّرة.
ويحذر العبيدي من أن الغرب هذه المرة لا ينوي التراجع، وأن التحالف الأميركي الأوروبي الإسرائيلي يسير باتجاه مواجهة مفتوحة، "ومن لم يسمع طبول الحرب فهو أطرش"، على حد قوله.

تبدو طهران اليوم في معادلة معقدة: تريد أن تبقى لاعبًا دبلوماسيًا معترفًا به، لكنها في الوقت ذاته لا تتخلى عن طموحها النووي.ومع تزايد الشكوك، وتصاعد الضغوط، وتراجع الثقة، يتجه الملف النووي الإيراني نحو نقطة اللاعودة، حيث يصبح كل يوم من المماطلة خطوة إضافية نحو مواجهة محتملة.
فهل تستطيع إيران أن تنقذ دبلوماسيتها قبل أن تتحول إلى وقود لصراع جديد في الشرق الأوسط؟
أم أن زمن التفاوض انتهى، وبدأ زمن الحسم؟