النهار
جريدة النهار المصرية

عربي ودولي

الإنذار الأحمر والفيضان المجهول.. هل يصبح سد النهضة قنبلة تهدد السودان ومصر؟

سد النهضة
هالة عبد الهادي -

عاد شبح الفيضانات ليطارد السودان من جديد، بعد أن شهدت البلاد خلال الأيام الماضية موجة أمطار غزيرة وارتفاعًا غير مسبوق في مناسيب النيلين الأزرق والأبيض. ورغم أن الخسائر الحالية لا تُقارن بما حدث خلال الأعوام الثلاثة الماضية التي أودت بحياة المئات وشرّدت الآلاف، إلا أن التحذيرات الرسمية من "إنذار أحمر" دفعت إلى تجدد الجدل حول دور سد النهضة الإثيوبي في المشهد المائي المتقلب في السودان والتي تمتد تداعياته إلي مصر.

وقد أصدرت وزارة الري السودانية بيانًا حذرت فيه من فيضانات واسعة النطاق، بعد أن شهدت مناطق جنوب النيل الأزرق وولايتي سنار والجزيرة ارتفاعًا خطيرًا في المنسوب. غير أن الساعات الأخيرة سجلت تراجعًا طفيفًا في مستوى النيل الأزرق، فيما ظل منسوب النيل الأبيض عند مستوياته المرتفعة مهددًا مناطق واسعة من جنوب الخرطوم، حيث غمرت المياه بالفعل عددًا من المنازل في منطقة "الكلاكلة".

الفيضانات لم تقتصر على النيل الأزرق وحده، بل امتدت إلى مناطق متفرقة على ضفاف النيل الأبيض القادم من بحيرة فكتوريا، وهو ما زاد من خطورة الموقف خاصة في جنوب الخرطوم. ورغم أن الحصيلة البشرية حتى الآن لم تسجل أي وفيات، إلا أن الأضرار المادية طالت المنازل والبنى التحتية الهشة، ما أعاد إلى الأذهان صور المآسي التي عاشها السودانيون في أعوام 2020 و2021 و2022.

سد النهضة.. في قلب العاصفة

افتتاح سد النهضة الإثيوبي في التاسع من سبتمبر أعاد الجدل حول تأثيره على السودان. السد، الذي تبلغ سعته التخزينية 74 مليار متر مكعب، يحتجز كميات ضخمة من مياه الفيضان القادمة من الهضبة الإثيوبية، وهو ما أثار تساؤلات حول علاقته المباشرة بموجة الفيضانات الحالية.
ففي حين يرى خبراء أن ارتفاع التدفقات المائية من 140 مليون متر مكعب إلى 738 مليون متر مكعب خلال أيام قليلة يؤشر إلى دور السد في إحداث اختلالات في التوازن المائي، يقلل آخرون من ذلك معتبرين أن الفيضانات ليست جديدة على السودان وأنها حدثت مرارًا قبل تشغيل السد.

وفي هذا السياق أوضح الخبير السوداني أحمد آدم أن الإيراد المائي من السد شهد تذبذبًا واضحًا محذرًا من أن ملء خزان السد في موسم الأمطار "قرار غير حكيم" لعدم إمكانية التحكم في مستويات الهطول.
أما المهندس نبيل النوراني، فيؤكد على أهمية التنسيق بين الخرطوم وأديس أبابا لتفادي أي تبعات سلبية، مشيرًا إلى أن السودان قد يجني فوائد كبيرة من السد مثل زيادة الدورة الزراعية وتنظيم الجريان وتوليد الكهرباء الرخيصة، إذا ما أُحسن التعاون في تشغيله.

وأعادت الفيضانات الأخيرة في السودان الجدل حول تأثير سد النهضة الإثيوبي، خاصة مع تباين الآراء بين الخبراء والمسؤولين حول مدى ارتباطها بالسد.

فيرى أستاذ الجيولوجيا وموارد المياه بجامعة القاهرة دكتور عباس شراقي، أن إدارة السد لعبت دوراً في الأزمة الحالية، حيث لم يتم تصريف المياه تدريجياً بعد موسم الأمطار، مما أدى إلى تراكم كبير في الخزان وتدفّق مفاجئ عبر البوابات العليا. ويشير شراقي إلى أن تعطّل بعض التوربينات في السد أعاق عملية تنظيم التصريف، وهو ما ساهم في ارتفاع مناسيب النيل الأزرق بشكل غير متوقع في السودان.

وعلى الجانب الرسمي، حاولت جهات سودانية التخفيف من الجدل، إذ أكدت تصريحات سابقة لوزارة الري أن السد لم يكن سبباً مباشراً في بعض موجات الفيضانات الماضية، خاصة مع غياب التنسيق الكامل أو تبادل البيانات بين الجانبين.

ومازالت الآراء في السودان منقسمة؛ فهناك من يرى أن الفيضانات الحالية نتيجة مباشرة لسياسات إثيوبيا في إدارة سد النهضة، فيما يعتبر آخرون أنها امتداد لظاهرة طبيعية طالما عانى منها السودان، خاصة على مجرى النيل الأبيض.

التأثير المحتمل على مصر: مخاوف وتحذيرات من الخبراء

لا تقف تداعيات الفيضانات وجدلية سد النهضة عند حدود السودان فقط، بل تمتد إلى مصر التي تعتمد على نهر النيل كمصدر رئيسي للمياه بنسبة تفوق 95%. فمع تذبذب مناسيب النيل الأزرق نتيجة تشغيل السد الإثيوبي وغياب التنسيق بين أديس أبابا والخرطوم، تبقى القاهرة أمام تحديات متزايدة في إدارة حصتها المائية. وفي حال تكررت سيناريوهات الملء أو التصريف المفاجئ، قد تواجه مصر انخفاضاً مؤقتاً في التدفقات، ما يضع ضغطاً على السد العالي وخطط الري والزراعة، خاصة في ظل تزايد عدد السكان وارتفاع الطلب على المياه. وفي المقابل، فإن التشغيل المنظم والملزم لسد النهضة يمكن أن يحقق لمصر فوائد ملموسة، أبرزها تقليل موجات الطمي التي تصل إلى السد العالي، وتنظيم التدفقات المائية بما يدعم استقرار الدورة الزراعية. لكن يبقى ذلك مرهوناً بتوافر اتفاق قانوني شامل يضمن مصالح الدول الثلاث ويمنع استخدام المياه كورقة ضغط سياسية.

خبراء المياه والاستراتيجيا في مصر يرون أن ما يحدث في السودان وسد النهضة ليس أمراً معزولاً، بل له تبعات مباشرة على الأمن المائي المصري. فقد حذر أستاذ الجيولوجيا وموارد المياه بجامعة القاهرة الدكتور عباس شراقي، من أن الملء المفاجئ لسد النهضة دون تنسيق قد يؤدي إلى خفض التدفقات المائية إلى مصر، خصوصاً في سنوات الجفاف، مما يزيد من ضعف الإمداد المائي لمصر التي تعتمد بنسبة كبيرة على مياه النيل. وقد أشار في حديثه إلى أن السدّ كان ينبغي أن يُصرف تدريجياً، وأن تعطل توربيناته ساهم في تفاقم الوضع.

كما أشار تحليل نشره معهد واشنطن، يُؤكد فيه المحلّلان أريغ الحاج وبن فيشمان إلى أن تشغيل السدّ الآن قد يثير أزمة مائية في مصر والسودان إن لم يُبرم اتفاق ملزم ينظم إطلاق المياه والإفرازات خلال الجفاف أو الفيضانات. ويرون أن الأمر بات يتطلب تدخلًا دبلوماسيًا أميركيًا واضحًا لتوسيط اتفاقية توازن المصلحة بين الدول الثلاث.

من جهة أخرى،أشارت دراسات بحثية إلى أن سد النهضة إذا ما جرى تشغيله بكفاءة وتنسيق يمكن أن يقلل من الفيضانات التي تجتاح الأراضي المنخفضة في السودان ومصر، ويقلل من الطمي الذي يتراكم في السدود المصرية، ما قد يطيل عمر البنى التحتية المائية في مصر. لكن هذا الفضاء المفيد مشروط بتعاون ومراقبة دقيقة بين الدول.

بين تحذيرات "الإنذار الأحمر" التي أطلقتها السلطات السودانية وموجات الفيضانات المتكررة، يجد السودان نفسه في مواجهة موسمية مع قوى الطبيعة، بينما يتجدد الجدل حول دور سد النهضة الإثيوبي في هذه الأزمة. ومع أن النقاش يتركز على الأضرار المباشرة التي لحقت بولايات سودانية عدة، إلا أن التداعيات لا تتوقف عند حدود الخرطوم، بل تمتد إلى مصر التي تراقب بدورها انعكاسات التغيرات المائية على أمنها المائي واحتياجاتها الاستراتيجية. وهكذا، يصبح المشهد أكثر تعقيدًا، إذ تتداخل اعتبارات محلية وإقليمية في معركة تتطلب إدارة دقيقة للموارد المائية وتعاونًا حقيقيًا بين دول حوض النيل لتجنب تكرار سيناريو الكوارث.