من النازية لليسار.. محاولة جديدة للإستقطاب نيتشة نحو التيار الليبرالي

بعد الحرب العالمية الثانية، ارتبط اسم فريدريك نيتشه بالنازية والفاشية، حتى بات يُنظر إليه كفيلسوف هتلر وموسوليني. لكن كتاب فيليب فيلش "كيف خرج نيتشه من البرد: حكاية فداء" يروي قصة استثنائية عن عالِمين إيطاليين يساريين – جورجيو كولي ومازينو مونتيناري – اللذين كافحا من أجل إنقاذ إرث نيتشه من هذا التشويه، واستعادته بوصفه فيلسوفًا معقدًا يتجاوز القراءات النازية.
رغم أن نيتشه رفض المساواة وهاجم الاشتراكية بوصفها "أيديولوجيا ، إلا أن فكره كان أكثر التباسًا مما صُوّر. النازيون لم يرثوا نيتشه مباشرة، بل عبر نسخة محرَّفة صنعتها أخته إليزابيث فورستر - نيتشه، التي كانت متعاطفة مع معاداة السامية والتحقت بالحزب النازي. بين 1894 و1926 أصدرت طبعة مشوّهة من أعماله، جمعت نصوصًا متفرقة في عمل سُمّي "إرادة القوة"، بما يتناسب مع الدعاية القومية العنصرية. هذا التلاعب جعل نيتشه يبدو وكأنه نبي للفاشية. لكن أرشيف نيتشه الحقيقي – آلاف الصفحات المخطوطة – ظلّ مهملًا ومتنقلاً في ألمانيا الشرقية بعد الحرب، مهددًا بالضياع. هنا برز دور كولي ومونتيناري. الأول كان فيلسوفًا شغوفًا باليونانيات ومؤمنًا بالحوار الأفلاطوني أكثر من النصوص الجامدة، والثاني شيوعيًا شابًا تعرّض للاعتقال في عهد الفاشية. كلاهما كان مناهضًا للحكم الشمولي، ورأى في نيتشه حليفًا ضد البربرية لا رمزًا لها.
ابتداءً من الستينيات، كرّس مونتيناري عمله في فيلا سيلبربليك (المقر السابق لأرشيف نيتشه) لفهرسة ونشر نصوص الفيلسوف وفق معايير نقدية صارمة، بالتعاون مع كولي. لم يكونا مؤهلين أرشيفيًا، لكن التزامهما الفكري واليساري دفعهما لإعادة بناء صورة "نيتشه الحقيقي"، بعيدًا عن شبح النازية. هذه الجهود لم تمر من دون جدل. ففي مؤتمر رويومون (1964)، اصطدم مشروع كولي ومونتيناري مع ميشيل فوكو، الذي اتهمهما بإعادة إنتاج نسخة أخرى مُسيطَر عليها من نيتشه، تمامًا كما فعلت إليزابيث من قبل، ولو بوسائل أكاديمية. بالنسبة لفوكو، لا يوجد "نيتشه أصيل" خلف التناقضات، بل شبكة من الأصوات لا يمكن إخضاعها لترتيب هرمي أو زمني صارم.
رغم ذلك، ساهم عملهما في إدخال نيتشه إلى حقل الفلسفة القارية ما بعد الحرب، مؤثرًا في تيارات مثل ما بعد البنيوية والتفكيكية. فلاسفة يساريون كـ ميشيل فوكو وجاك دريدا وجدوا في نيتشه أدوات لتفكيك الذات المتمركزة والعقلانية الليبرالية التي شرعت الرأسمالية الغربية. وقد ساعدهم على إعادة التفكير في مفاهيم السلطة، القيم، والتاريخ، حتى لو لم يشارك نيتشه نفسه في الإيمان بالاشتراكية أو بالمساواة.
هذا التوظيف اليساري لنيتشه أثار إشكالية: هل يمكن لليسار أن يتبنى فيلسوفًا فردانيًا معاديًا للاشتراكية؟ هنا برزت مقاربة بول ريكور الذي صنّف نيتشه مع ماركس وفرويد كـ"أساتذة الشك"، كاشف للأوهام التي يقوم عليها المجتمع الحديث. فإذا كانت القيم تاريخية وثقافية كما يرى نيتشه، فإنها قابلة للتغيير، ما يفتح المجال لإعادة تقييمها لصالح العدالة، بدل "النزعة الجمالية" التي ينبني عليها حكمه. لكن هذا الانفتاح على نيتشه يواجه اعتراضات من داخل اليسار نفسه. إذ يخشى بعض النقاد أن يتحول نقد الحقيقة الموضوعية إلى انزلاق نحو فردانية عدمية تلتقي مع اليمين. دريدا حاول لاحقًا تجاوز هذا المأزق عبر طرح العدالة كأفق آتٍ لا محالة، فيما أشار مارك فيشر إلى أن هيمنة الرأسمالية قد خلقت عجزًا عن تخيل بديل.
إذن، لا تكمن أهمية كولي ومونتيناري فقط في إنقاذ أرشيف نيتشه من الضياع أو من التحريف النازي، بل أيضًا في فتح نقاش فلسفي عميق حول علاقة اليسار بالفكر غير الماركسي. فقد بيّنا أن مواجهة الفاشية لم تكن دائمًا بالعودة إلى ماركس وحده، بل أحيانًا بإعادة تأويل خصومه الفكريين أيضًا.
في النهاية، لم يجعل عملهما من نيتشه فيلسوفًا يساريًا، لكنه حرره من القراءة النازية وأعاد إدخاله في السجال الفلسفي الأوروبي، حيث صار مرجعًا في النقد الاجتماعي والسياسي، حتى لدى أكثر التيارات مناوئة للماركسية. مما يوضح ان كولي ومونتيناري لم يغيّرا فكر نيتشه، بل غيّرا موقعه. أعاداه من معسكر النازية إلى فضاء النقاش النقدي، فاتحين الباب لليسار الأوروبي كي يحاوره بدلًا من أن يشيطنه، ليظل نيتشه إلى اليوم لغزًا سياسيًا وفلسفيًا لا ينتمي كليًا لأي معسكر.