النهار
جريدة النهار المصرية

عربي ودولي

زلزال سياسي في الأمم المتحدة:اعترافات غربية تغير موازين الصراع العربي ـ الإسرائيلي

القضية الفلسطينية
هالة عبد الهادي -

تقرير: هالة عبد الهادي

تشهد الساحة الدولية لحظة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. العالم يتغير أمام أعيننا، والاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية تعيد رسم الخريطة السياسية من جديد. في الوقت الذي تمضي فيه إسرائيل في التصعيد العسكري ضد غزة، تتحرك دول من الشرق والغرب لإحياء أمل حل الدولتين عبر اعترافات دبلوماسية غير مسبوقة. هذه التحولات لم تأتِ في فراغ، بل في ظل ضغوط متزايدة داخل الأمم المتحدة، ومواقف متباينة من القوى الكبرى، وصدام مفتوح بين إسرائيل والمجتمع الدولي.

وفي خطوة وُصفت بالتاريخية، أعلنت بريطانيا وأستراليا وكندا والبرتغال اعترافها الرسمي بدولة فلسطين أمس الأحد، لتنضم بذلك إلى موجة متصاعدة من الاعترافات الدولية التي تعكس تحوّلًا في المزاج السياسي العالمي تجاه القضية الفلسطينية. هذا التطور يعيد إحياء الأمل لدى الفلسطينيين بعد عقود من الاحتلال والاستيطان والحروب، كما يضع إسرائيل في مأزق دبلوماسي متصاعد، خصوصًا أن هذه الاعترافات جاءت من دول حليفة تقليديًا لواشنطن وتل أبيب. وبذلك، تتحول الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام إلى منصة تاريخية لإعادة فتح ملف القضية الفلسطينية من زاوية جديدة، تحمل معها دلالات سياسية وأخلاقية عميقة.

الجمعية العامة للأمم المتحدة وأزمة فلسطين

تنطلق اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة،غدا الثلاثاء، بمشاركة نحو 140 رئيس دولة وحكومة. وفي قلب هذا الحدث، يبرز الملف الفلسطيني كأولوية قصوى، حيث يتصدر عنوان "الحرب في غزة" جدول الأعمال.كما يسعي القادة المجتمعون في نيويورك إلى دعم مبادرة حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين كخطوة أساسية لإحياء عملية السلام.

على هامش الاجتماعات، يُعقد مؤتمر برعاية سعودية ـ فرنسية اليوم الأثنين، ستعلن خلاله فرنسا وعدة دول أخرى اعترافها رسميًا بفلسطين. ومع هذه الخطوة، يرتفع عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى أكثر من 149 دولة من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة، بعدما انضمت مؤخرًا دول مثل بلجيكا وأستراليا والبرتغال وكندا ومالطا، إضافة إلى بريطانيا وفرنسا.

التاريخ يثبت أن الاعتراف بفلسطين ليس جديدًا، فقد بدأ منذ إعلان الرئيس الراحل ياسر عرفات قيام الدولة عام 1988 في الجزائر، ثم توالت الاعترافات في التسعينيات وبداية الألفية. وفي ربيع 2024، شهدنا دفعة جديدة من الاعترافات الأوروبية والكاريبية من دول مثل إيرلندا وإسبانيا والنرويج وبربادوس وجامايكا.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش شدد على أن العالم لا يجب أن يخشى ردود الفعل الإسرائيلية ضد الاعتراف بفلسطين، مؤكدًا أن إسرائيل مستمرة في سياسة تدمير غزة وضم الضفة "سواء اعترفنا أم لا". كما أقرت الجمعية مبادرة "إعلان نيويورك" السعودية ـ الفرنسية لإحياء حل الدولتين ضمن خطوات واضحة ومحددة زمنيًا.

رد الفعل الفلسطيني

رحبت القيادة الفلسطينية بالاعترافات واعتبرتها "انتصارًا تاريخيًا لعدالة القضية الفلسطينية".الرئيس محمود عباس وصفها بأنها "بداية النهاية لعقود من الاحتلال"، فيما دعت الفصائل الفلسطينية إلى توحيد الصفوف لاستثمار هذه اللحظة التاريخية.

رد فعل إسرائيل والإعلام العبري

اعتبرت الحكومة الإسرائيلية الاعترافات الدولية بفلسطين "خطوة أحادية الجانب"، و سارعت إلى مهاجمة بريطانيا وكندا وأستراليا، واعتبرت قراراتها "طعنة في خاصرة الديمقراطية".ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاعترافات بأنها "مكافأة للإرهاب"، وتعهد بمواصلة الاستيطان والعمليات العسكرية في غزة والضفة.

وهاجم قرارات الاعتراف الغربية، قائلاً: "رسالتي واضحة للقادة الذين يمنحون اعترافًا بعد مجزرة السابع من أكتوبر: أنتم تكافئون الإرهاب. لكن دعوني أؤكد أن دولة فلسطينية لن تُقام غرب نهر الأردن."
كما أعلن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير أنه سيطرح خلال اجتماع الحكومة المقبل مقترحًا لبسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، في خطوة تُعد ضمًا فعليًا للأراضي المحتلة منذ حرب 1967. وأضاف أنه يرى ضرورة حل السلطة الفلسطينية التي تحظى بدعم غربي وتمارس حكمًا ذاتيًا محدودًا بالضفة.

وردا علي ذلك أعلن رئيس الوزراء الكندي مارك كارني أن قرار بلاده الاعتراف بدولة فلسطين يهدف إلى دعم جهود التعايش السلمي ووضع حد لسيطرة حركة حماس.
وقال كارني: "هذا الاعتراف لا يمنح الإرهاب أي شرعية، ولا يُعتبر مكافأة له، بل هو خطوة لتعزيز فرص السلام بقيادة السلطة الفلسطينية."

وأكد الإعلام العبري أن تل أبيب أصبحت معزولة سياسيًا، واعتبر الاعترافات "هزيمة دبلوماسية" لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. كما رأت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن موجة الدعم الأوروبي لفلسطين كشفت فشل الحكومة الإسرائيلية في إدارة الملف. وتحدثت قناة "كان" العبرية عن خطط إسرائيلية للرد عبر استدعاء سفراء الدول المعترفة بفلسطين وتجميد التعاون الاقتصادي.

بينما اتهمت المعارضة الحكومة بالفشل في إدارة الأزمة، ما أدخل إسرائيل في عزلة غير مسبوقة.
القصف الإسرائيلي على غزة

في المقابل، تواصل إسرائيل تصعيدها العسكري. الجيش الإسرائيلي أعلن استخدام "قوة غير مسبوقة" في قصف مدينة غزة، ما أدى منذ فجر السبت وحتى الآن إلى استشهاد اكثر من 17 فلسطينيًا بينهم 14 في مدينة غزة، بحسب وكالة "وفا".

الهجمات استهدفت مدرسة المعتصم التي كانت تؤوي نازحين، إضافة إلى مناطق محيطة بالجامعة الإسلامية وتل الهوى وحي التفاح وحي النصر. كما قصفت الطائرات المسيّرة حي الصبرة، بينما شهد الشمال الغربي قصفًا عنيفًا وتفجير سيارات مفخخة.

واستهدفت المدفعية الإسرائيلية مخيم البريج ومعسكر الشاطئ، ودمرت مبانٍ سكنية عدة، فيما أُغلق طريق صلاح الدين أمام النازحين، ليُفرض عليهم المرور عبر شارع الرشيد الساحلي المزدحم والمكلف. وتقول الأمم المتحدة إن نحو 480 ألف نازح غادروا غزة في الأيام الأخيرة، بينما أكد الدفاع المدني الفلسطيني أن العدد اقترب من 450 ألف منذ أواخر أغسطس.

وفي ذات السياق أعلن الجيش الإسرائيلي أن النازحين سيجدون خيمًا ومساعدات غذائية وطبية في منطقة المواصي بالجنوب، لكن الواقع الإنساني يشير إلى أزمة متفاقمة.

التصعيد الإسرائيلي في غزة مرشح للاستمرار، خاصة مع الدعم الأمريكي غير المحدود. لكن، العزلة الدولية قد تحدّ من قدرة إسرائيل على توسيع عملياتها العسكرية، وتضع الجيش أمام مأزق "الانتصار العسكري مقابل الهزيمة السياسية".

صفقات تسليح ضخمة لإسرائيل

في خضم هذه التطورات، كشفت وكالة "رويترز" أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسعى للحصول على موافقة الكونغرس على صفقة تسليح ضخمة لإسرائيل بقيمة 6.4 مليار دولار. الصفقة تتضمن 30 طائرة أباتشي هجومية بقيمة 3.8 مليار دولار، و3250 مركبة مشاة بقيمة 1.9 مليار دولار، إضافة إلى صفقة أخرى بقيمة 750 مليون دولار لقطع غيار ناقلات الجند وإمدادات الطاقة.

صفقة الأسلحة الأمريكية لإسرائيل تعكس إصرار واشنطن على ضمان تفوقها العسكري، لكنها في الوقت ذاته تزيد من الغضب العالمي وتغذي اتهامات "ازدواجية المعايير".

الموقف الأمريكي

اعتبرت الولايات المتحدة أن قرارات حلفائها، مثل بريطانيا وأستراليا وكندا، بالاعتراف بفلسطين، ليست سوى "خطوات استعراضية".

وتجد اشنطن نفسها في موقف بالغ الحساسية. ففي الوقت الذي تمضي فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب في دعم غير مشروط لإسرائيل، عبر صفقات تسليح ضخمة ومساعدات عسكرية متزايدة، تواجه الإدارة ضغوطًا داخلية وخارجية. الكونغرس الأمريكي يشهد جدلًا حادًا بين الجمهوريين المؤيدين لإسرائيل والديمقراطيين الذين يطالبون بوقف تسليحها وفرض شروط إنسانية.

الإدارة الأمريكية بررت الصفقات بأنها "ضرورة استراتيجية لأمن إسرائيل"، لكنها لم تستطع إخفاء حالة الانقسام داخل المجتمع الأمريكي بين تيارات ترى أن الدعم المطلق لتل أبيب أصبح يضر بمصالح واشنطن في الشرق الأوسط، ويعزز من موجة العداء العالمي تجاهها.

الموقف الأوروبي

أوروبا تعيش انقسامًا تاريخيًا. دول مثل فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإسبانيا وأيرلندا والبرتغال ومالطا اتخذت خطوة الاعتراف بفلسطين رسميًا، معتبرة أن الوقت قد حان لوضع حد للصراع. وفي المقابل، فضلت دول مثل ألمانيا وهولندا والنمسا التريث، بحجة أن الاعتراف يجب أن يكون جزءًا من تسوية شاملة.

لكن، ما يميز هذه اللحظة هو أن العواصم الأوروبية الكبرى باتت أكثر جرأة في مواجهة تل أبيب. باريس ولندن أكدتا أن الاعتراف ليس موجهًا ضد إسرائيل، بل خطوة لتعزيز فرص السلام، غير أن الإعلام الإسرائيلي اعتبر ذلك "طعنة في الظهر".

الموقف العربي والخليجي

لاقت الاعترافات الأوروبية صدى واسعًا في العالم العربي.فقادت السعودية تحركات دبلوماسية عبر "إعلان نيويورك"، مؤكدة أن لا حل سوى بإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. مصر والأردن رحبتا بالموجة الجديدة من الاعترافات، فيما شددت قطر والإمارات على ضرورة استغلال اللحظة للدفع نحو مفاوضات سلام عادلة.

أما في الخليج، فقد عُقدت مشاورات غير معلنة داخل مجلس التعاون بشأن دعم سياسي ومالي للسلطة الفلسطينية، تحسبًا لأي تصعيد إسرائيلي ضد الدول الأوروبية المعترفة بفلسطين.

الموقف الإيراني

رحبت طهران بدورها بقوة بالاعترافات الدولية بفلسطين، واعتبرتها "انتصارًا لمحور المقاومة". كما قالت الخارجية الإيرانية إن "المجتمع الدولي بدأ يدرك الحقيقة التاريخية بأن فلسطين لن تُمحى". لكن إسرائيل سارعت لاتهام إيران بمحاولة استغلال الحدث سياسيًا لتعزيز نفوذها في المنطقة.

الموقف الروسي

موسكو استغلت اللحظة للتأكيد على أنها كانت من أوائل الدول المعترفة بفلسطين منذ عام 1988.وشدد الكرملين على أن الاعترافات الأوروبية الأخيرة تؤكد صحة الموقف الروسي الثابت، وطالب بضرورة عقد مؤتمر دولي جديد للسلام تشارك فيه جميع الأطراف بما فيها حماس والجهاد الإسلامي.

الموقف الصيني

الصين أعادت التأكيد على موقفها الداعم لقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. ورأت بكين أن الاعترافات الأوروبية تعكس "فشل السياسة الإسرائيلية في فرض الأمر الواقع"، وحذرت من أن استمرار الاحتلال يهدد الأمن والسلم الدوليين.

الموقف الإفريقي

منظمة الاتحاد الإفريقي باركت الاعترافات الأخيرة، واعتبرتها خطوة تاريخية في سبيل تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. جنوب إفريقيا لعبت دورًا بارزًا في الضغط على العواصم الأوروبية، بعدما قدمت دعاوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة في غزة

الموقف اللاتيني

أمريكا اللاتينية لم تكن بعيدة عن المشهد. البرازيل وتشيلي والمكسيك انضمت إلى قائمة الدول المؤيدة لفلسطين، فيما أعلنت كولومبيا أنها ستدرس الاعتراف الرسمي قريبًا. هذا الزخم اللاتيني يعيد للأذهان موجة الاعترافات في مطلع الألفية من دول مثل الأرجنتين والأوروغواي وبوليفيا.

السيناريوهات المحتملة

الاعترافات الدولية المتزايدة تفتح الباب أمام عدة سيناريوهات:

الأول: تشكيل ضغط حقيقي على مجلس الأمن لإصدار قرار يمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.

الثاني: دفع إسرائيل إلى تشديد قبضتها العسكرية في الضفة وغزة للرد على المجتمع الدولي.

الثالث: دخول الولايات المتحدة في عزلة دبلوماسية متنامية إذا واصلت تعطيل أي خطوات نحو الدولة الفلسطينية.

التأثيرات الدبلوماسية والقضائية

توسيع دائرة الاعترافات يعزز من الموقف الفلسطيني أمام المحاكم الدولية، خصوصًا مع الدعاوى المقدمة ضد إسرائيل في لاهاي. كما أنه يضع تل أبيب في موقف صعب أمام محكمة الجنايات الدولية التي تواصل تحقيقاتها في جرائم الحرب في غزة.

إلى أين تتجه القضية الفلسطينية؟

المشهد الدولي اليوم يؤكد أن القضية الفلسطينية لم تعد حبيسة الجغرافيا أو المفاوضات العقيمة، بل تحولت إلى محور صراع عالمي بين العدالة والاحتلال، بين القانون الدولي ومنطق القوة. الاعترافات المتتالية من دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا تمثل كسرًا لحاجز الصمت الأوروبي والغربي، وتضع إسرائيل في زاوية عزلة سياسية لم تعهدها منذ قيامها.

لكن، ورغم هذا الزخم، تظل التحديات هائلة. إسرائيل، بدعم أمريكي غير مشروط، ماضية في مشروعها الاستيطاني والتهويدي، معتبرة أن هذه الاعترافات لن تغيّر من واقع السيطرة العسكرية على الأرض. الولايات المتحدة من جانبها تجد نفسها أمام معضلة: الاستمرار في الدفاع عن إسرائيل أي خسارة رصيدها الأخلاقي والإنساني أمام العالم، بينما الانحياز إلى العدالة أي صدامًا مع اللوبيات المؤثرة داخلها.

على الصعيد العربي، تبدو الفرصة سانحة لإعادة إحياء الموقف الموحد بعد سنوات من الانقسام. الاعترافات الجديدة تعطي غطاءً سياسيًا للدول العربية للتحرك بشكل جماعي، سواء عبر الأمم المتحدة أو عبر الضغط الاقتصادي والدبلوماسي. أما الفلسطينيون أنفسهم، فإنهم أمام مسؤولية تاريخية لتوحيد الصفوف وإنهاء الانقسام الداخلي، حتى لا تتحول هذه المكاسب السياسية إلى مجرد رمزية فارغة.

المعادلة إذن لم تُحسم بعد. الاعترافات خطوة مهمة لكنها ليست نهاية الطريق. القادم قد يشهد مزيدًا من المواجهات في المحاكم الدولية، وتنامي الضغوط الشعبية في الغرب لمقاطعة إسرائيل، وربما موجة جديدة من الانتفاضات الفلسطينية إذا استمر العدوان على غزة. العالم يتغير، واللحظة الراهنة قد تكون بداية إعادة كتابة تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي.