النهار
جريدة النهار المصرية

فن

البريء الذي صرخ في وجه السلطة.. عاطف الطيب كما لم يُروَ من قبل

 عاطف الطيب
بسمة رمضان -

في ركنٍ ناصع من ذاكرة السينما المصرية، يسطع اسم عاطف الطيب كمخرج استثنائي لم يأتِ من مدرسة الزخرفة البصرية أو الخيال البعيد، بل من قلب الشارع، من بين صرخات المظلومين ونظرات البسطاء، من عمق وجع الوطن. ورغم أن مشواره الفني لم يتجاوز 12 عامًا، فإنه نجح في أن يحفر اسمه كأيقونة للسينما الواقعية، وكصوتٍ صادق للفقراء والمهمشين.

سينما من نبض الشارع

عاطف الطيب لم يصنع أفلامًا ليرضي بها السلطة أو يجامل بها السوق، بل صنعها لينقل الحقيقة بكل ما تحمله من قسوة وجمال. أفلامه كانت "محاضر جلسات" واقعية للشارع المصري، تعكس أوجاع المواطن العادي وتعري فساد الأنظمة والبيروقراطية التي تعوق الأحلام وتخنق الطموحات.

من خلال عدسته، رأينا مصر كما لم نرها من قبل؛ مصر الموظف الذي يكافح من أجل لقمة العيش، والعامل الذي يقهره الظلم، والضابط الذي تتحول براءته إلى سلاح ضد شعبه، والمرأة التي تصارع من أجل كرامتها.

"سواق الأتوبيس".. البداية المدوية

كان أول أفلامه، سواق الأتوبيس (1982)، بمثابة إعلان قوي عن قدوم صوت جديد للسينما الواقعية. الفيلم — الذي يتناول قصة سائق أتوبيس يكافح لإنقاذ ورشة أبيه من الإفلاس جاء صادمًا بصدقه وحرارته. وقد حقق نجاحًا نقديًا كبيرًا، حتى رُشح لجائزة "الدب الذهبي" بمهرجان برلين.

البريء.. حين تصبح الطاعة جريمة

في البريء (1986)، قدّم الطيب واحدة من أكثر التجارب السينمائية جرأةً في تاريخ مصر. أحمد زكي، في دور المجند البسيط الذي يُبرمج ليصبح أداة قمع، قدم أداءً استثنائيًا. الفيلم صدم الجمهور والرقابة معًا، حتى مُنع عرضه لسنوات طويلة بسبب نهايته الموجعة التي كُتمت قسرًا.

ضد الحكومة.. صرخة في وجه الفساد

جملة "كلا فاسدون، لا أستثني أحدًا" التي نطق بها أحمد زكي في فيلم ضد الحكومة (1992) ما زالت ترن في الذاكرة الوطنية. الفيلم لم يكن مجرد عمل درامي، بل وثيقة اتهام صريحة ضد منظومة تعليم وصحة وقضاء متصدعة، وقد جسّد الطيب من خلاله ذروة نضجه الفني والإنساني.

عاطف الطيب.. السهل الممتنع

أسلوب الطيب كان بعيدًا عن التعقيد والمبالغة. استخدم الواقعية لا كوسيلة شكلية، بل كحالة وجودية. لم يكن يختبئ وراء جماليات الصورة، بل يواجه جمهوره بالحقيقة العارية. وكان بارعًا في توجيه الممثلين، لا سيما أحمد زكي، الذي شكّل معه ثنائية لا تُنسى.

رحيل مبكر.. لكن الإرث باق

في يونيو 1995، رحل عاطف الطيب عن عمر ناهز 47 عامًا بعد عملية قلب فاشلة، وهو في قمة عطائه. رحل، لكنه ترك إرثًا سينمائيًا لا يُقدَّر بثمن، وأفلامًا صادقة تعيش حتى اليوم، وكأنها صُنعت بالأمس.

مخرج الفقراء.. في ذاكرة الخلود

عاطف الطيب لم يكن مخرجًا فقط، بل كان ضميرًا سينمائيًا. لم يجمّل الواقع، بل حمله كما هو، وقدمه بشجاعة نادرة. كان يعرف أن "السينما قد لا تغير العالم، لكنها تستطيع أن تضيء عتمته"، وهذا ما فعله بصدق، في زمنٍ تُباع فيه الأحلام على شاشات مُعلبة، يبقى "الطيب" شاهدًا على زمن كانت فيه السينما تُصنع من أجل الناس لا من أجل الجوائز.